top of page

أسترالي فاز بجائزة اللغة العربية والأدب لجائزة الملك فيصل العالمية

أسترالي فاز بجائزة اللغة العربية والأدب لجائزة الملك فيصل العالمية

تأكيدًا لعالميتها، وتقديرًا لتلك الجهود التي درست الفكر اللغوي العربي بغير لغته، أعلنت جائزة الملك فيصل العالمية في حفل إعلان أسماء الفائزين بها في دورتها 42 لعام 1441/2020- عن منح جائزة فرع (اللغة العربية والأدب) في موضوعها عن (الدراسات اللغوية العربية باللغات الأخرى)-للبروفيسور الأسترالي مايكل كارتر؛ تقديرًا لجهوده العلمية المتميزة، التي كتبها باللغة الإنجليزية، على مدى خمسين عامًا، عن الفكر اللغوي العربي وبخاصة النظرية النحوية التراثية ورائدها سيبويه.

لقد أضحت جائزة الملك فيصل، باختيارها هذا الموضوع، عالمية في جميع فروعها؛ إذ إنّ في استحقاق كارتر جائزة فرع (اللغة العربية والأدب) نقلة عالمية لهذا الفرع الذي ظلت موضوعات جوائزه السابقة في نطاق الجهود العربية في خدمة اللغة العربية. واللافت، وربما هو الأهم، أنّ في هذه النقلة تأكيدًا على عالمية هذه اللغة، وتقديرًا لكل جهد يرفع من شأنها ويعلي من مكانتها مهما كان مصدره. وهذا ينسجم كل الانسجام مع رؤية الجائزة وأهداف راعيتها مؤسسة المـلك فيصل الخيرية التي أرادت من خلال هذه الجائزة أن تقدر من «قَدَّموا خدمة ممتازة للإسلام والمسلمين، وللعلماء والباحثين، الذين حَقَّقوا، في تخصصهم، ريادة نافعة للبشرية بعامة وللدول الإسلامية والنامية بخاصة».

إن الطريق للفوز بجائزة في حجم جائزة الملك فيصل وسمعتها شاق وطويل لمن يعرف آليات التحكيم الدقيقة والمتعددة والمحايدة والصارمة التي تنتهجها أمانة الجائزة، وهي آليات أكاديمية موضوعية بحتة أكسبت الجائزة مصداقية علمية وسمعة عالمية كانت صفة لازمة لها طوال عمرها الممتد أكثر من أربعين عامًا حتى غدت محط أنظار العلماء، ومقياساً للكفاءة العلمية، ووسام تقدير للجهود المؤثرة في الفكر والمعرفة الإنسانية، ومؤشرًا مهمًا في استحقاق فائزيها الفوزَ بجوائز أخرى.

لم يكن فوز مايكل كارتر بالجائزة في موضوعها عن (الدراسات اللغوية العربية باللغات الأخرى) مستغربًا، بل كان منتظرًا لمن يعرف تاريخ الرجل في خدمة التراث النحوي العربي؛ إذ يعد أبرز المستعربين اللغويين المعاصرين المهتمين بفكر سيبويه ونظريته النحوية التي تجسد عمق التفكير اللساني العربي وأصالته. تلك النظرية التي أرادت درس الطبيعة الوظيفية الكاملة للنظام النحوي بتقديم وصف كامل للعربية في جميع أنظمتها اللغوية، وهو أمر أخفق النحويون الذين جاؤوا بعد سيبويه في فهمه وإدراكه؛ إذ لم يوفقوا في إدراك ذلك في نظام سيبويه فحولوا إرثه وإنجازه إلى اتجاه معياري صارم ما زال يعد السمة السائدة في مجمل الدرس النحوي العربي حتى يومنا هذا. لقد أكدت أعمال كارتر على الطريقة التي يتعامل بها سيبويه مع اللغة، وذلك بالنظر إليها على أنها شكل من السلوك الاجتماعي؛ مما جعله يستخدم (المقاييس الاجتماعية الخُلُقية) السائدة في عصره في تقويم مستوى الصواب في اللغة على جميع مستويات التحليل اللغوي. ومن هنا، فإن سيبويه، في نظر كارتر، يُعَدُّ مؤسِّسَ اللسانيات العربيّة، لا مؤسِّس النّحو العربيّ فحسبُ. وهذا أمر جعله يقرِّر، منذ اتصاله الأول بالكتاب، وجوب تفسير كتاب سيبويه في سياقِه التاريخي؛ لأنّ موضوعَه اللغة التي لم تكنْ لغةَ دين الإسلام فحسب، بل كانتْ أيضًا لغةَ الإدارة والثّقافة في دولةٍ ذات امتداد هائل مساحةً وزمنًا، وكان (الكِتاب) سِجِلّ هذه اللّغة في صورتِها المثلى، والوثيقةَ المؤسِّسة لجميع التّطورات اللّاحقة في العربيّة طَوالَ اثنَيْ عشرَ قرنًا. وهذا ما انتهجه كارتر في أطروحته للدكتوراه التي نالها مِن جامعة أُكسفورد ببريطانيا عام 1968م، وكانت بعنوان: Sibawayhi›s Principles of Grammatical Analysis، أي: (مبادئ سيبويه في التّحليل النّحويّ)، أو (أسس التّحليل النّحويّ عند سيبويه)، وتعدُّ من الدراسات الغربية الرائدة في مجال التراث النّحوي العربي، ولا سيّما كتاب سيبويه؛ إذ لم يكتب عنه أحد قبل كارتر دراسةً علميةً على هذا النّمط، وكان المشرف عليها أَلْفرِد بيستون (1911–1995م)، تلميذ مَرْغليوث (1858–1940) المستشرق الشّهير. وقد نشر كارتر أطروحته هذه عام 2016م، أي بعد مضيّ نصف قرنٍ تقريبًا على كتابتها، من دون تغييرٍ في نصِّها، وفي ذلك دلالة على اعتداده بها، واحتفاظها بقيمتها على الرغم من الفارق الزمني الطويل بين تاريخَي المنح والنشر. ويشتغل، الآن، الباحث الأستاذ أحمد مجدي قطب بترجمتها وتقديم دراسة عنها في متطلبه لنيل درجة الماجستير من كليّة دار العُلوم في جامعة القاهرة. وأنتهز الفرصة؛ لأشكره على تزويدي بمعلومات عن رسالته ودراسته التي أفدت منها في كتابة هذا الموضوع.

لقد درّس كارتر، بعد حصوله على درجة الدكتوراه، في عدد من الجامعات العالمية المرموقة، ومن أبرزها جامعات سدني، وديوك، ونيويورك، وأوسلو. وفي سنة 2006م، تقاعد من العمل في جامعة سدني، لكن الجامعة منحته الانتساب الفخري لها، إلى يومنا هذا؛ تقديرًا له. وإبان تدريسه في قِسم الدّراسات الساميّة بجامعة سيدني، عمل على ترسيخ مكانة اللغة العربية وأشرف على وضع مقرّراتها، ومهَّد لإنشاء برنامج الدّراسات الإسلاميّة في القسم نفسه. وفي سنة 2003م، منحته جامعة لوند بالسويد دكتوراه الفلسفة الفخرية؛ اعترافًا منها بجهوده البحثية. كما عمل كارتر أستاذًا زائرًا في عدد من الجامعات والمؤسسات البحثية في أوروبا، وانضم في مرحلة من عمره لفريق الباحثين في مؤسسة ألكسندر فون هومبولت في ميونيخ (1978-1979) وكولونيا (1983-1984). وقد انتخَبه مجمع اللغة العربية في القاهرة عضوًا مراسلًا له في الولايات المتحدة الأميركية حين كان يدرِّس في قسم لغات الشّرق الأدنى وآدابها بجامعة نيويورك.

ولم تنقطع صلة كارتر بكتاب سيبويه بعد أطروحة الدكتوراه، بل تعمقت به كثيرًا، فكتب عنه دراسة نشرها في كتاب سنة 2004م عنْونه بـ»سيبويه»، فضلًا عن أبحاثه الأكاديمية العديدة التي نشرها عن الكتاب قبل ذلك التاريخ وبعده، نذكر منها على سبيل المثال: (1) عشرون درهمًا في كتاب سيبويه، و(2) سيبويه واللسانيات الحديثة، و(3) نحوي عربي من القرن الثامن الميلادي، و(4) تطور اللسانيات العربية بعد سيبويه: المدرسة البصرية والكوفية والبغدادية، و(5) التداولية واللغة التعاقدية في البدايات الأولى للنحو العربي والنظرية الفقهية، و(6) نحو اللغة المؤثرة/ الفعّالة في كتاب سيبويه. ويعمل كارتر، حاليًا، بمعاوَنة ألكسندر ماتڤيـڤ، ولوتس إدزارد ، على إتمام مشروع ضخم عن (الكتاب) أطلق عليه رقمنة كتاب سيبويه The digitalisation of the Kitab of Sibawayhi . ويهدف هذا المشروع إلى حوسبة مادة الكتاب الضخمة. وقد بدأه برقمنة أجزاء من الكتاب، وهي: (أ) الأبواب السّبعة الأولى المشتملة على أسس العربية العامة، وقد جُمع فيها بين نَشَرات الكتاب الثّلاث المعروفة: الباريسيّة لهَرتويغ دِرِنبُرغ، والبولاقيّة، والهارونيّة، ونشرة رابعة لجِرجاس مشتملة على ثلاثة أبواب (الأول، والثاني، والسابع)، مع ترجمتَيْن، إحداهما ألمانيّة لجوستاف يان، والأخرى فرنسيّة لجيرار تروبو، و(ب) الأبواب السبعة الأخيرة المعنيّة بالأصوات، وقد جُمع فيها، أيضاً، بين النشرات الثلاث السابقة، والترجمة الألمانيّة، والترجمة الفرنسية للباب الأول من الإدغام مع شرح السيرافي له.

ومما يسجل لكارتر موقفه المدافع عن أصالة الفكر النحوي العربي، فقد ظل اسمه مرتبطًا في أذهان المهتمين بتاريخ النحو العربي في العصر الحديث بالقضية الجدلية عن تأثر النحو العربي بالثقافات الأجنبية وخصوصاً المنطق اليوناني، تلك القضية التي أثارها ابتداءً بعض المستشرقين الأوائل ومن أبرزهم المستشرق المعروف أدَلْبرت مِرْكِس (1909-1838)، وتبناها بعض المستعربين اللغويين المعاصرين كاللغوي الهولنديكِيس فرستيغ في كتابه: (عناصر يونانية في الفكر اللغوي العربي). وقد وقف كارتر موقف المدافع عن أصالة النحو العربي حينما بيَّنَ في بحثه: (جذور النحو العربي) أن سيبويه يستعمل في (الكتاب) مجموعتين من المصطلحات، مجموعة كثيرة العدد وتتضمن المصطلحات العربية الأصل، ومجموعة قليلة العدد وتتضمن مصطلحات تتوافق مع مصطلحات يونانية الأصل. وعند حديثه عن القياس في النحو العربي يؤكد، صراحةً، أنه لم يتأثر بالقياس الأرسطي الذي يسير من الكليات إلى الجزئيات بل تأثر بالقياس الفقهي، أي أن القياس النحوي العربي كان قياساً لغويًا فطريًا يسير على نمط القياس الفقهي الذي كان شائعًا قبل ترجمة العلوم اليونانية إلى العربية. ومما يقوي هذا الرأي عند كارتر أن وحدة المنهج والمصطلحات بين علمي «الفقه» و»النحو العربي» دليل على أن نشأتهما عربية إسلامية؛ يهدف الأول لضبط تعاليم الشريعة، بينما يهدف الثاني إلى ضبط اللغة؛ مما يدلل على أن العلوم الإسلامية مرتبطة بالعلوم العربية وأنّ التواصل والتكامل قائم بين التفسير والفقه والنحو والشعر. وإذا كانت العلوم الإسلامية بمنأى عن التأثير المنطقي فالنحو كذلك، وإلا فيلزم أن يقال بتأثر العلوم الإسلامية في نشأتها بالمنطق ولم يقل بذلك أحد.

ومع أنّ اسم كارتر ظل مرتبطًا بسيبويه وكتابه حتى وصِف في الغرب بأنه «رجل سيبويه»، إلا أن جهوده تعدت ذلك إلى البحث في عمق التفكير النحوي، فحقق وترجم ودرس كثيرًا من قضايا النحو العربي. ومن أبرز ما كتب في هذا الصدد: (1) الحلقة المفقودة بين اللغة والفقه: كتاب الانتصار لابن ولّاد و(2) عبدالقادر بن عمر البغدادي و(3) المدارس الفقهية والنظرية النحوية و(4) الصراع لأجل السلطة: إعادة النظر في الخلاف البصري والكوفي و(5) خليل آخر: وجيهٌ، ومعلمٌ وحكيمٌ (نُشر ضمن دراسات عن الخليل بن أحمد) و(6) المصطلح (سبَب) في النحو العربي و(7) النحاة الأندلسيون: هل هم مختلفون؟ و(8) أنواع الجملة في النحو والفقه والفلسفة و(9) جذور النحو العربي.

وقد تعرّض كارتر في كثير من بحوثه لطائفةٍ من التساؤلات والفَرْضيات التي تتعلّق بتاريخ النحو العربي، كالشخصية النّحوية الأولى التي يُنسَبُ إليها ابتداع هذا العِلم، وصحة المصنَّفات المنسوبة إلى من تقدّموا سيبويه، والرِّوايات التاريخيّة المتعلقة بوضعِ علم النّحو، والدّوافع الكامنة وراء تأسيسه، وأهميته في إطار الثّقافة العربية، وصلته بالعلوم الإسلاميّة ولا سيّما علم الفقه والأخلاق. كما ناقش، أيضاً، تاريخ مصطلَح (النّحو)، ودلالة لفظ (النّحويين) في (الكِتاب)، وطبيعة إسهام الخليل ويونس فيه، وأصول المصطلَح النّحويّ في (الكتاب)، واطّراد منهج (الكتاب) وتماسكه، ومشابهة طريقته لمنهج (تحليل المكوّنات المباشرة) في اللسانيات الغربية؛ لافتًا، في ذلك، النظر إلى وجوه الاتفاق بين منهج سيبويه في كتابه ومناهج البِنْيَوِيّين في القرن العِشرين، وخاصة: دو سوسير، وبلومفيلد، ومارتينيه.

ومما يظهر، جليًّا في بحوث كارتر، ويجدر ذكره والإشادة به، ذلك الوعيُ بأهمية المنجز اللغوي العربي، ولا سيما نظريته النحوية التراثية، للفكر اللساني الحديث؛ إذ يرى أنّ التطور المذهل في نظريات هذا الفكر جعله في مستوى يُمْكنه فيه أن يقدِّر عمق التفكير اللساني العربي ودقَّته. بل إنّه يذهب أبعد من ذلك عندما يقرر بأنّ كثيرًا من المقاربات اللسانية المعاصرة كمفهوم (الكليات اللغوية) لا يمكن البت به علميًا من غير الإشارة إلى الإنجازات التراثية اللغوية التي يُعدّ المنجز العربي أشهرها من حيث النضج الذي لا يقل عن نضج الإنجازات اللغوية المألوفة كالهندية أو الصينية. ويمكن للقارئ أن يعود لرؤيته هذه مفصلة في كتابٍ حرره بالاشتراك مع كيس فرستيغ (دراسات في تاريخ النحو العربي، 1990).

بقي أن نتقدم بالشكر ابتداءً إلى أمانة جائزة الملك فيصل على اختيارها موضوع الجائزة الذي قاد لتكريم هذا العَلم، وتقدير إسهاماته العلمية في درس التراث اللغوي العربي ونشره خارج حدود بيئته العربية؛ مما ساعد، كما يقول جوناثان أوينز، على قراءة أعمال النُّحاة العرب، والانتِصاف لها، والكشف عن أصولٍ جديدةٍ فيها. فشكرًا لأمانة الجائزة والقائمين عليها وفي مقدمتهم أمين الجائزة سعادة الدكتور عبدالعزيز السبيل الذي أحدث نقلة نوعية مشهودة في تفعيل رؤية الجائزة ورسالتها وفي توسيع مجالات اهتمامها؛ لتحقق تطلعاتِ مجلس هيئتها ورئيسه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل الذي يطمح لأن تكون الجائزة، بتجربتها وتاريخها الطويل، رافدًا مهمًا للجوائز العربية الأخرى، وقد تجلى ذلك، مؤخرًا، في دعوة سموه أمناء ورؤساء ثلاث وعشرين جائزة عربية لمنتدى الجوائز العربية الذي أقيم في الرياض يوم الأربعاء 3 صفر 1441هـ الموافق 2 أكتوبر 2019م، والذي كان من بين أهم أهدافه التنسيق والتعاون بين الجوائز العربية؛ للتكامل فيما بينها وتبادل التجارب والخبرات.

ولا ننسى أن نتقدم بالشكر لمن بادر بترشيح كارتر للفوز بهذه الجائزة، أعني قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القصيم، الذي أكد بهذا الترشيح أن هدف القسم: "مد جسور التواصل بين الفكر التراثي اللغوي والدراسات في الفكر اللغوي المعاصر"، الذي جعله مكونًا من مكونات رؤيته، لم يكن حبرًا على ورق، وأن هدف القسم: "تعزيز روح الانتماء للغة العربية والاعتزاز بتراثها المعرفي" يتحقق، أيضًا، ويكون بالإشادة والتعريف بكل جهد أسهم في هذا التعزيز والاعتزاز.

أستاذ اللسانيات بقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القصيم

المصدر:

bottom of page