top of page

اليوم الثاني: 21 فبراير 2024

الجلسة الثالثة: 10:00 - 11:30

السلام والتنمية الاجتماعية

 

رئيس الجلسة:

            الدكتور رشيد الحمد - دولة الكويت

المعقب الرئيس:

            الدكتورة منى الحديدي - جمهورية مصر العربية

المتحدثون:

أ- تأمين الإدماج والمشاركة (المرأة / الشباب / الأقليات):

            1- الدكتورة جيلدا هوزا - ألبانيا

            2- الدكتورة نيفين مسعد - جمهورية مصر العربية

ب- توجيه برامج التنمية (الصحة / التعليم / العمران):

            3- الدكتور جوردون ساموت - مالطا

            4- الدكتور أنس بوهلال - فنلندا

 

أ- تأمين الإدماج والمشاركة (المرأة / الشباب / الأقليات)

1- الدكتورة جيلدا هوزا - ألبانيا

1- المقدّمة

          اعتُمدت إدماج ومشاركة النساء والشباب والأقليات في النقاشات الأكاديمية والأنشطة الاجتماعية بصورة تدريجية في السياسات العامة خلال السنوات الماضية، ويتم التعبير عن هذه الفئات الاجتماعية الثلاث في الخطاب الأكاديمي بشكل تقاطعي، وصاغت كيمبرلي كرينشو مصطلح "التقاطعية" قبل نحو ثلاثة عقود، سافر بعدها هذا المصطلح وانتقل عبر التخصصات العلمية والسياقات الجغرافية (Barbera, 2023). أما من ناحية الممارسة العلمية، يرتبط مفهوم "التقاطعية" بالعملية القضائية، وقد كان النشاط الشعبي حاسمًا للغاية داخل المجتمعات، ولكن في سياق الولايات المتحدة بشكل خاص. وتُظهر التوصيات العديدة - التي صدرت عن هيئات حقوق الإنسان الدولية لمعالجة أوجه عدم المساواة التقاطعية المتعددة الجوانب من خلال القانون والسياسات - الحاجة الملحة إلى معالجة اختلال التوازن بين الأبعاد النظرية والعملية للتقاطعية في أوروبا.

          تكشف التقاطعية كيف يمكن أن يؤدي تفاعل عوامل التمييز المتعددة إلى توليد أشكالٍ مترابطة من الضعف، كما أنها تساعد على إدراك كيف أن "مصفوفة الهيمنة" (Hill, 1990) - التي لم تتشكل نتيجة للتحيز الجنسي فحسب، بل نتيجة للعنصرية وكراهية الأجانب، والاستعمارية، والقومية، ورهاب المثلية، والتمييز ضد ذوي الإعاقة - تجعل تجربة التمييز مختلفة اعتمادًا على المواقف الاجتماعية الفردية والجماعية.

          تعكس التقاطعية انتقادًا طويل الأمد ضد التركيز على المرأة باعتبارها موضوعًا نموذجيًّا لجهود مكافحة التمييز، كما أنها تلفت الانتباه إلى كيف أن "نهج المرأة" – الذي يهدف إلى إدماج المرأة في المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي استبعدتها على مر التاريخ – لا يأخذ في الاعتبار تعدد الهياكل الاجتماعية التقاطعية التي تندمج فيها المرأة (Kantola & Lombardo, 2017) وتكون جزءًا فيها. بالإضافة إلى ذلك، تتوافق التقاطعية مع "النهج الجنساني" في تشخيص الوضع التاريخي والجغرافي للمرأة في إطار العلاقات الاجتماعية بين الجنسين، وفي الدعوة إلى تحويل القوى التي تولد عدم المساواة الهيكلية بين الجنسين، والتي - إذا لم يتم معالجتها - يديمها القانون والسياسات (Kantola & Lombardo, 2017).

          كما دفع إدخال التقاطعية في التوصيات الدولية بشأن القضاء على التمييز على أساس الجنس والعِرق والإعاقة إلى التدقيق في علاقتها بنهج التنوع (Hankvisky & Cormier, 2011)، ولقد أصبح التنوع كلمة طنانة لوصف عدم التجانس الاجتماعي دون توضيحٍ للتوزيع غير المتكافئ للسلطة الذي ينشأ عنه الاستبعاد أو التمييز (Jacobs, 2022).

          على الرغم من تناوله في عدد متزايد من الدراسات، إلا أن دور النوع الاجتماعي في مشاركة الشباب إلى جانب خصوصيات المشاركة السياسية للشابات لا يزال غير مستكشف في كل من الأدبيات السياسية والأكاديمية، ومن أجل سد هذه الفجوة والارتقاء بمستوى معرفتنا بمشاركة الشابات، يقدم هذا البحث نظرة عامة على المفاهيم والعمليات المفيدة لفهم العوامل التي يقوم عليها التمييز على أساس الجنس في إطار المشاركة السياسية للشباب، بالإضافة إلى توضيح للمواضيع الرئيسية التي تم التطرق إليها في هذا المجال، مثل المساحات الآمنة، والتقنيات الرقمية، والعنف القائم على النوع الاجتماعي عبر الإنترنت، واستقلالية الشابات، والتقاطعية، وأنماط مشاركة الشابات من الخلفيات المحرومة أو الأقل حظًّا.

          تجادل تقارير مجلس أوروبا (Anna Lavizzari; Laden Yurttagüler, 2023) بأن الدراسات التي توفر معلومات أساسية ذات صلة حول مشاركة الشباب قد نظرت في القضايا المتشابكة للاستقلالية وإمكانية الوصول إلى الحقوق. علاوة على ذلك، يتأثر الشباب بشكل عام وبصورة أكبر بآثار الأزمة الاقتصادية وتدابير التقشف المرتبطة بها (Hamilton, Antonucci, & Roberts, 2014) والتي تتراوح بين تعزيز خطط سوق العمل المرنة وتخفيض دعم الدولة للطلاب في مرحلة التعليم العالي.

          كما تأثر الشباب بشدة بالاضطرابات الاقتصادية التي اجتاحت العالم خلال فترة تفشي جائحة كورونا وبعدها، وعلى الرغم من أن الأزمة الاقتصادية، كان للعديد من تدابير التقشف أو الآثار التي تسببت فيها جائحة كورونا تأثيرًا سلبيًّا على استقلالية الشباب، ومجموعات بعينها، مثل الشابات والشباب من الخلفيات المحرومة والأقل حظًّا. وفقًا لتقرير البرلمان الأوروبي حول فقر المرأة،

"... لقد أثر الوباء بشكل غير متناسب على النساء في المجال الاجتماعي والاقتصادي، وعمّق من حالات التمييز الحالي وأدى إلى مزيد من عدم المساواة بين النساء والرجال في سوق العمل..." (European Parliament, 2022)

          إن ميل القانون والسياسات العامة نحو ربط التقاطعية بالتنوع وأشكال التمييز المتعددة في الممارسة السياسية أمر متناقض، لأن التقاطعية تهدف إلى تحدي سياسات المساواة التي تركز على الهويات بدلاً من معايير العدالة الاجتماعية.

 

2- الإطار القانوني للاتحاد الأوروبي؛ المشاركة والإدماج

          يقوم الاتحاد الأوروبي على مبدأ سيادة القانون، وهذا يعني أن جميع الإجراءات التي يضطلع بها الاتحاد الأوروبي تستند إلى معاهدات وافقت عليها جميع الدول الأعضاء طوعاً وبطريقة ديمقراطية، وتعتبر هذه المعاهدات اتفاقيات ملزمة قانونًا بين الدول الأعضاء تحدد أهداف الاتحاد الأوروبي، وقواعد مؤسساته، وآلية اتخاذ القرارات، والعلاقة بين الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، ويعترف الاتحاد الأوروبي بالمساواة بين المرأة والرجل باعتبار تلك المساواة مبدأً وقيمة أساسيين، فضلًا عن اعتبارها شرطًا ضروريًّا لتحقيق أهداف الاتحاد الأوروبي المتمثلة في النمو والتوظيف والتماسك الاجتماعي، وقد ألزمت المفوضية الأوربية نفسها منذ عام 1996 بـ "نهج مزدوج" نحو تحقيق المساواة بين الجنسين، وينطوي هذا النهج على يغلب هذا المنظور الجنساني على جميع السياسات التي يتم صياغتها ضمن الاتحاد، بالإضافة إلى تنفيذ تدابير محددة للقضاء على أوجه عدم المساواة بين الجنسين أو منعها أو معالجتها، ويسير كلا النهجين جنبًا إلى جنب، ولا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر، ولا يمثل تعميم مراعاة المنظور الجنساني هدفاً سياسياً في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق المساواة بين الجنسين، التي تعتبر قيمة أساسية للاتحاد الأوروبي منصوص عليها في وثائقه القانونية والسياسية العامة.

·       تدعو المادتان 2 و 3 من المعاهدة التأسيسية للاتحاد الأوروبي، والمادتان 21 و 23 من ميثاق الحقوق الأساسية، والمادة 8 من معاهدة عمل الاتحاد الأوروبي إلى المساواة بين المرأة والرجل. فعلى سبيل المثال، تطالب المادة 8 من الاتحاد الأوروبي صراحةً الاتحاد بـ "القضاء على أوجه عدم المساواة وتعزيز المساواة بين المرأة والرجل من خلال جميع أنشطته" (تعميم مراعاة المنظور الجنساني).

·       تتضمن معاهدة لشبونة التزامًا بالمساواة بين الجنسين من خلال الإعلان رقم 19، المرفق بالوثيقة الختامية للمؤتمر الحكومي الدولي الذي اعتمد المعاهدة.

          تحدد استراتيجية المساواة بين الجنسين للفترة من 2020–2025 أهداف السياسة والإجراءات الرامية إلى تحقيق أوروبا للمساواة بين الجنسين حيث "يتمتع النساء والرجال، والفتيات والفتيان بكل أنماط التنوع بكامل الحرية في متابعة مسار حياتهم الذي يختارونه، وأن يكون لديهم فرص متساوية للازدهار والنجاح، وأن يتمكنوا من المشاركة على قدم المساواة في مجتمعنا الأوروبي وقيادته". وبناءً على هذا الالتزام، سيتم اتخاذ العديد من إجراءات على مستوى الدول الأعضاء وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي في المجالات التالية: إنهاء العنف القائم على النوع الاجتماعي، وتحدي القوالب النمطية الجنسانية، وسد الفجوات بين الجنسين في سوق العمل، وتحقيق المشاركة المتساوية في مختلف قطاعات الاقتصاد، ومعالجة الفجوة في الأجور والمعاشات التقاعدية بين الجنسين، وسد فجوة الرعاية بين الجنسين، وتحقيق التوازن بين الجنسين في صنع القرار والسياسة. كما يجب أن يستند تنفيذ هذه الالتزامات إلى النهج المزدوج للتدابير المستهدفة لتحقيق المساواة بين الجنسين، جنبًا إلى جنب مع تعزيز تعميم مراعاة المنظور الجنساني، والتقاطعية بين الجنسين، وأسباب التمييز الأخرى. ومن المقرر رصد التقدم المحرز في تنفيذ الاستراتيجية وتقديم تقرير عن ذلك إلى البرلمان الأوروبي والمجلس على أساس سنوي ليكون بمثابة تقييم سياسي سنوي للتقدم المحرز في هذا الصدد. وتسلط الاستراتيجية الضوء على أن المفوضية ستقوم بتقدير حجم نفقاتها المتعلقة بالمساواة بين الجنسين على مستوى البرامج، كما أنها ستستخدم تعميم مراعاة المنظور الجنساني في عملية ميزانيتها.

          تحدد الركيزة الأوروبية للحقوق الاجتماعية 20 مبدأً رئيسياً كإطار للتقارب نحو تحسين الظروف المعيشية وظروف العمل في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، حيث تُبنى هذه الركيزة على ثلاث فئات: تكافؤ الفرص وإمكانية الوصول إلى سوق العمل، وتوفير ظروف عمل عادلة ومنصفة، والحماية الاجتماعية والإدماج. وقد تبنى الاتحاد الأوروبي ست توجيهات تغطي مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في بيئة العمل، وفي العمل الحر، وفي الوصول إلى السلع والخدمات، وفي الضمان الاجتماعي، وفي الحمل والأمومة، ووصولًا إلى الإجازة المتعلقة بالأسرة وترتيبات العمل المرنة للوالدين ومقدمي الرعاية؛ حيث وضعت هذه التوجيهات الستة معًا معيارًا قانونيًا تدريجيًا في جميع أنحاء أوروبا، مما يضمن حماية واسعة من التمييز العنصري. ويدعم توجيه التوازن بين العمل والحياة المساواة بين الجنسين، فضلًا على أنه يركز على تقديم العناصر الرئيسية للركيزة الأوروبية للحقوق الاجتماعية (المبدأ الرئيسي 9: التوازن بين العمل والحياة، من خلال التدابير القانونية والسياساتية).

          كما يقدم توجيه التوازن بين العمل والحياة معايير دنيا للإجازة العائلية، وترتيبات عمل مرنة للعمال، بالإضافة إلى أنه يعزز التقاسم المتساوي لمسؤوليات الرعاية بين الوالدين لجعل كلا الوالدين مسؤولين ومستحقين عندما يتعلق الأمر برعاية الأسرة، كما ويركز بشكل أساسي على نهج واسع النطاق من أجل معالجة التمثيل الناقص للمرأة في سوق العمل ويهدف إلى تمكين الوالدين (وغيرهم من الأشخاص الذين يتحملون مسؤوليات الرعاية) من تحقيق توازن أفضل بين حياتهم المهنية وحياتهم الأسرية، مع مراعاة جانب المساواة بين الجنسين في تقاسم هذه المسؤوليات بين المرأة والرجل. علاوة على ذلك، من المتوخى تبادل الممارسات الجيدة مع الشركاء الاجتماعيين والدول الأعضاء من خلال الحلقات الدراسية في إطار برنامج التعلم المتبادل.

          تُشَكِّلُ معالجة الفجوة في الأجور بين الجنسين أولوية واضحة بالنسبة إلى المفوضية الأوروبية، وهي المسألة التي تحظى بمزيد من الدعم في اتفاقية أهداف برشلونة التي دعت الدول الأعضاء إلى إزالة المثبطات التي تحول أمام مشاركة المرأة في أن تكون جزءًا فاعلًا في القوى العاملة من خلال الأخذ في الاعتبار الطلب على خدمات رعاية الطفل، بما يتماشى مع الأنماط الوطنية لتوفير رعاية الطفل، لزيادة توفيرها. وقد دَعَمت هذه الجهود مؤخرًا استنتاجات المجلس المؤرخة 2 ديسمبر 2020، حيث دعا مجلس أوروبا الدول الأعضاء إلى اتخاذ خطوات لتسهيل المساواة في الحصول على إجازة والدية بين النساء والرجال والتوزيع المتساوي بين النساء والرجال لأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر (بما في ذلك العمل المنزلي) وتحسين البنية التحتية العامة وتوافر الخدمات الخارجية لدعم التقاسم المتساوي.

استنادًا إلى ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي وبعد بيان المفوضية بعنوان "أوروبا 2020 ": استراتيجية للنمو الذكي والمستدام والشامل"، تضمنت الإرشادات لسياسات التوظيف للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي 2020/0030 (NLE) عناصر تتعلق بتداعيات أزمة COVID -19 وما تسببت فيه هذه الجائحة من آثار على مختلف الأصعدة، والتحولات الخضراء والرقمية، وأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، وهي تهدف إلى توجيه تنفيذ سياسات التوظيف في الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء. يتجدد التقارب في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي من خلال استراتيجية متناسقة للتوظيف، وخاصة لتعزيز القوى العاملة الماهرة والمدربة والقابلة للتكيف، وأسواق العمل التي تتطلع نحو المستقبل وتستجيب للتغيرات الاقتصادية، والأهداف المتمثلة في الحصول على التوظيف الكامل والتقدم الاجتماعي، والنمو المتوازن، ومستوى عالٍ من الحماية وتحسين جودة البيئة، على النحو المنصوص عليه في المادة 3 من معاهدة الاتحاد الأوروبي.

          تسهم سياسة التماسك الأوروبية للفترة ما بين 2021–2027 في تعزيز التماسك الاقتصادي والاجتماعي والإقليمي في الاتحاد الأوروبي، وأحد أهدافها الخمسة هو "أوروبا أكثر اجتماعية وشمولية"؛ حيث يظل تركيز السياسة خلال هذه الفترة على القدرة التنافسية الاقتصادية المستدامة من خلال البحث والابتكار، والتحول الرقمي، وأهداف الصفقة الخضراء الأوروبية، وتعزيز الركيزة الأوروبية للحقوق الاجتماعية بمبادئها العشرين الموجهة نحو "أوروبا اجتماعية قوية عادلة وشاملة ومليئة بالفرص"، مع تحقيق ثلاثة أهداف محددة، يجب تحقيقها بحلول عام 2030 بشأن التوظيف والوصول إلى التدريب والحد من مخاطر الفقر. وتماشياً مع الركيزة الأوروبية للحقوق الاجتماعية، تحدد اللائحة العامة للشراكة قواعد مشتركة لصناديق الإدارة المشتركة للاتحاد الأوروبي، بما في ذلك المبادئ الأفقية.

يشمل ذلك المساواة بين الجنسين حيث "يجب على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية أن يضمنا أخذ المساواة بين الرجال والنساء، وتعميم مراعاة المنظور الجنساني، وإدماج المنظور الجنساني في الاعتبار، فضلًا عن تعزيز ذلك في جميع مراحل إعداد البرامج وتنفيذها ورصدها وتقديم التقارير عنها وتقييمها" (لائحة الاتحاد الأوروبي 2021/1060، المادة 9(2)). وبالتالي، ينبغي أن يستند التنفيذ إلى نهج مزدوج للبرامج التي يتمثل هدفها الرئيسي في تحقيق المساواة بين الجنسين و/أو البرامج التي تعمم مراعاة المنظور الجنساني. أما خارج الاتحاد الأوروبي، تضم أهداف التنمية المستدامة التي اعتمدتها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 2015 سبعة عشر هدفًا عالميًا تهدف إلى القضاء على الفقر وغيره من أشكال الحرمان، إلى جانب تنفيذ استراتيجيات لتحسين قطاعي الصحة والتعليم، والحد من التفاوتات وأوجه عدم المساواة ودعم النمو الاقتصادي، كما تُصَنًّفُ مسألتي التغيرات المناخية والحفاظ على المحيطات والغابات على أنهما من الموضوعات ذات القدر الكبير من الأهمية، وتعتبر المساواة بين الجنسين عنصرًا شاملًا ومتقاطعًا في جميع الأهداف العالمية السبعة عشر، فضلًا عن كونها هدفًا مستقلًا في حد ذاته. يهدف الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة – الذي ينص على "تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين جميع النساء والفتيات" على وجه التحديد إلى تحقيق الأهداف المرتبطة بنظام التتبع المقترح المطروح (المشار إليه بالخط العريض)، كما أنه يسلط الضوء على الحاجة إلى:

·       القضاء على جميع أشكال التمييز ضد جميع النساء والفتيات في كل مكان؛

·       القضاء على جميع أشكال العنف ضد جميع النساء والفتيات في المجالين العام والخاص، بما في ذلك الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي وغيرها من أنواع الاستغلال الأخرى؛

·       القضاء على جميع الممارسات الضارة، من قبيل زواج الأطفال والزواج المبكر والزواج القسري، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث (ختان الإناث)؛

·       الاعتراف بأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر والعمل المنزلي وتقديرها من خلال توفير الخدمات العامة والبنى التحتية ووضع سياسات الحماية الاجتماعية وتعزيز تقاسم المسؤولية داخل الأسرة المعيشية والعائلة، حسبما يكون ذلك مناسباً على الصعيد الوطني؛

·       ضمان مشاركة المرأة مشاركة كاملة وفعالة، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص المتاحة لها للقيادة على قدم المساواة مع الرجل على جميع مستويات صنع القرار في الحياة السياسية والاقتصادية والعامة؛

·       ضمان الحصول الشامل على خدمات الصحة الجنسية والإنجابية وعلى الحقوق الإنجابية، على النحو المتفق عليه وفقا لبرنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية ومنهاج عمل بكين والوثائق الختامية لمؤتمرات استعراضهما؛

·       القيام بإصلاحات لمنح المرأة حقوقا متساوية في الموارد الاقتصادية، وكذلك إمكانية حصولها على حق الملكية والتصرّف في الأراضي وغيرها من أشكال الملكية الأخرى، وعلى الخدمات المالية، والميراث والموارد الطبيعية، وفقًا للقوانين الوطنية؛

·       تعزيز استخدام التكنولوجيا التمكينية، وبخاصة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، من أجل تعزيز تمكين المرأة؛

·       اعتماد سياسات سليمة وتشريعات قابلة للإنفاذ للنهوض بالمساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات على جميع المستويات.

          نظرًا لالتزامها بأهداف التنمية المستدامة (SDGs)، يجب على البلدان متابعة ومراجعة مستوى التقدم المحرز نحو تحقيق تلك الأهداف والغايات على مدى السنوات الخمس عشرة المقبلة، ويجب على تلك البلدان نفسها من أجل توفير هذا القدر من المعلومات، مراقبة التقدم من خلال جمع ومراجعة البيانات عالية الجودة والتي تكون متاحة ويمكن الوصول إليها في الوقت المناسب. أما فيما يتعلق بهذا التقرير بشكل خاص، يسعى مؤشر أهداف التنمية المستدامة 5.c.1 إلى قياس جهود الحكومات فيما يتعلق بتتبع مخصصات الميزانية الموجهة نحو أنشطة المساواة بين الجنسين طوال دورة إدارة المالية العامة وجعل هذه المعلومات متاحة أمام الجمهور، كما يهدف المؤشر 5.c.1 إلى تشجيع الحكومات على تطوير أنظمة مناسبة لتتبع ورصد الميزانية، والالتزام بإتاحة المعلومات حول مخصصات المساواة بين الجنسين للجمهور بسهولة.

 

3- التقاطعية: المنظور الألباني

          تستند استراتيجية الأمم المتحدة للشباب لعام 2030 إلى الرؤية العالمية لعالمٍ تتحقق فيه حقوق الإنسان لكل شاب؛ ويتم فيه تمكين كل شاب من تحقيق إمكاناته الكاملة؛ ويُعترف فيه بقدرة الشباب وقدرتهم على الصمود ومساهمتهم الإيجابية باعتبارهم عوامل للتغيير. ويمكن للشباب، المجهزين بالمهارات والفرص اللازمة لتحقيق إمكاناتهم، أن يكونوا قوة دافعة تدعم التنمية وتساهم في تحقيق السلام والأمن على حدٍّ سواء. وبناءً على تطورات هذه الاستراتيجية، من المتوقع تشجيع وتمكين المنظمات التي يقودها الشباب للمشاركة في تبني ونقل أهداف أجندة عام 2030 إلى السياسات المحلية والوطنية والإقليمية.

          من خلال المشاركة السياسية والموارد المناسبة، يملك الشباب القدرة على تحويل العالم بشكل بأكثر الطرق والأدوات فعالية إلى أن يصبح مكان أفضل للجميع. ومن المهم، من منظور أهداف التنمية المستدامة بشكل خاص، ألا يتخلف أي طفل أو شاب عن الركب أو أن يُترَكَ دون تنمية. أما بخصوص أهداف التنمية المستدامة التي تؤثر بشكل مباشر على الشباب وعلى تنميتهم في هذه الاستراتيجية، فهي كما يلي: الهدف 3 - الصحة الجيدة والرفاهية: يظل ضمان حياة صحية وتعزيز الرفاهية للشباب، وخاصة في ظروف العيش خلال جائحة مثل COVID-19، هدفًا عالميًا رئيسيًا يجب تحقيقه. الهدف 4 - التعليم الجيد: يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفرصٍ أفضل للتوظيف والتقدم الوظيفي للهروب من الفقر، وقد أثَّرت الجائحة على هذا الهدف أيضًا بشكل مباشر من خلال انخفاض معدلات الأطفال الذين يحصلون على تعليمهم بشكل حضوري في المدرسة، مما يهدد إنجازات التعليم الحديثة في جميع أنحاء العالم. الهدف 5 - المساواة بين الجنسين: تشير التطورات الحالية بخصوص المساواة بين الجنسين في ألبانيا إلى أن المساواة هي متطلب أساسي لضمان تحقيق التنمية المستدامة والسلمية؛ حيث تسعى هذه الاستراتيجية إلى معالجة هذا الهدف في كافة جوانبه، من خلال محاولة الحث على تنفيذ التدابير المتعلقة بتوظيف الشابات وتوفير الحماية لهن من العنف المنزلي، كما تتناول الاستراتيجية في الوقت نفسه القضايا المتعلقة بدعم تعبير الشباب عن هوياتهم الجنسانية. الهدف 8 - العمل اللائق والنمو الاقتصادي: هذا الهدف قد شكّل تحديًا لكل الحكومات في جميع أنحاء العالم بسبب أزمة الجائحة والتأثير الذي كان لها على الحياة الاقتصادية للشباب.

          يمثل اتخاذ تدابير لضمان استمرار توظيف الشباب على المستوى المحلي من خلال زيادة تنقل الشباب وتوظيفهم خارج المراكز الحضرية أولويةً لوزير الدولة لشؤون الشباب والأطفال بالتعاون مع الوزارات التنفيذية المسؤولة عن التوظيف. الهدف 10 من أهداف التنمية المستدامة - يظل الحد من أوجه عدم المساواة أولوية أساسية لهذه الاستراتيجية فيما يتعلق بالفلسفة التنموية المتمثلة في عدم ترك أي شباب وراء الركب وجعلهم جزءًا لا يتجزأ من تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال ضمان مشاركتهم في كل عملية. الهدف 11 من أهداف التنمية المستدامة - لا يمكن اعتبار المدن والمجتمعات المستدامة على هذا النحو إلا عندما يتمكن الشباب من بناء حياتهم هناك دون النظر إلى الهجرة الداخلية أو الخارجية على أنهما خياران لتحقيق التنمية على المستوى الفردي. ومن خلال زيادة فرص العمل والترفيه والمشاركة الاجتماعية على مستوى البلديات مع مساحات مخصصة للشباب، سيتم تحقيق قدر أكبر من الاستدامة والتنمية الحضرية والريفية في جميع أنحاء البلاد. الهدف 13 من أهداف التنمية المستدامة - يتطلب العمل المناخي، في وضع عالمي يشهد كل عام ارتفاعًا متزايدًا في معدلات الاحتباس الحراري على المستوى العالمي وتتدهور فيه جودة الهواء والماء، إشراك الشباب ومنظمات الشباب لإحداث تغييرات في النهج العالمي تجاه هذه الظاهرة. تزيد الحرب في أوكرانيا والجائحة من تفاقم التحدي والصعوبات التي تواجه التنمية في هذا المجال، لكن هذه الاستراتيجية تعتبر المشاركة في الصفقات الخضراء بشأن التوظيف والتنمية الاقتصادية تدابير من شأنها أن يكون لها أيضًا تأثير على هذه العملية، وتظل مشاركة الشباب في الإجراءات المناخية أولوية. الهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة - يشكل السلام والعدالة والمؤسسات القوية جوهر التنمية ونواتها فيما يتعلق بالعمل مع الشباب، من خلال ضمان أن المؤسسات المسؤولة لا تقدم خدمات عالية الجودة للشباب فحسب، بل أن تقدم أيضًا خدمات صديقة للشباب لها القدرة على أن تتكيف معهم. ويُنظر إلى التعزيز المؤسسي للمنظمات والشباب، من خلال تعزيز دورهم في تطوير نظام عدالة فعال، على أنه أولوية في إطار تدابير الاستراتيجية هذه. الهدف 17 من أهداف التنمية المستدامة - تضمن الشراكات من أجل تحقيق الأهداف مستويات كاملة من التعاون مع الأمم المتحدة وشبكتها من المنظمات الموجودة في ألبانيا، فضلًا عن الشراكات القائمة على المستوى الإقليمي من خلال تأسيسها على تعاون الشباب بناءً على الخبرة المكتسبة من خلال التعاون الذي تم إنشاؤه في إطار RYCO. وقد شدد الشباب في جميع اجتماعات التشاور مع ممثلي الحكومة بشدة على الحاجة إلى توفير المزيد من فرص العمل والمشورة المهنية والتطوير المهني داخل البلاد، بما يتماشى مع الهدف رقم 8 من أهداف التنمية المستدامة؛ حيث إنهم يهدفون وينظرون إلى تنميتهم على أنها مرتبطة بالابتكار والتعليم الجيد، وكذلك بحماية وتنمية البلد والبيئة من خلال ربط هذه الطلبات بهدفي التنمية المستدامة رقمي 4 و 13. لا يكتفي الشباب بطلباتهم للحصول على صحة بدنية وعقلية جيدة فحسب، بل يحتاجون أيضًا إلى زيادة الاندماج في المجتمع وعدم استبعادهم من خطط التنمية، ويرتبط هذا الطلب بأهداف التنمية المستدامة 3 و 10 و 11 و 16. وفي الوقت نفسه، تستند طلبات هؤلاء الشباب فيما يتعلق بالتعاون والتنقل إلى الهدف 17 من أهداف التنمية المستدامة.

          الشباب هو محور برنامج الحوكمة خلال الفترة من 2021-2025، حيث تعتبر تنمية الشباب ودورها في تنمية البلاد مدمجة في المجالات الرئيسية للبرنامج، في إطار الاستراتيجية الوطنية للشباب 2021-2025 على النحو التالي؛

          فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، يؤكد البرنامج الحكومي على ثقة الحكومة في الشباب باعتبارهم قوة من شأنها تسريع التقدم نحو الجيل القادم في ألبانيا. وبالتالي، تم الالتزام ليس فقط من خلال توفير فرص تعليمية أفضل في المجالات ذات الأولوية، مثل العلوم والتكنولوجيا والهندسة، ولكن أيضًا من خلال توفير فرص لهم ليصبحوا رواد أعمال مستقبليين في مجالات التكنولوجيا والابتكار من أجل المنافسة بكفاءة في السوق العالمية.

          وفيما يتعلق بعملية تطوير اقتصاد قوي قائم على التحديث والإنتاجية والقدرة التنافسية، يُنظر إلى ألبانيا على أنها مركز إقليمي للمشاريع الجديدة في قطاع الاقتصاد الرقمي، مما يوفر العمل الكريم للشباب من أجل تحقيق ركيزة نوعية في توظيف الشباب. وفي سياق تطوير مجتمع المعرفة، يهدف البرنامج الحكومي إلى إعادة بناء نظام التعليم لجعله أكثر سهولة وأكثر إمكانية للوصول إليه، فضلًا عن توفير البنية التحتية الحديثة من خلال دفع الشباب وتوجيههم نحو مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

          لا تنظر رؤية الحكومة في ألبانيا 2030 إلى الشباب فقط من حيث تطوير البنية التحتية للخدمات لرعايتهم ونموهم، بل أنها أيضًا يولى اهتمامًا خاصًّا بوضع وتطوير سياسات جديدة لتحسين قطاع الصحة وتوفير تعليم عالي الجودة، وإنشاء مساحات بديلة تعزز تدريب الشباب ومواهبهم وتشجع على ذلك. أما فيما يتعلق بالتعليم، كما هو موضحٌ أيضًا في استراتيجية التعليم الوطنية للفترة 2021-2026، يتبع تطوير البنية التحتية المدرسية الجديدة، الناتجة أيضًا عن أضرار الزلازل في عام 2019، خطة لتطوير نظام التعليم لتزويد الشباب بالمعرفة والمعلومات التنافسية، وسيتحقق ذلك من خلال: الاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية المخبرية، بالإضافة إلى تعزيز قيمة الشهادات في سوق العمل، وتعزيز مؤسسات التعليم العالي المحلية، ومن المتوقع تحقيق نمو في الجودة في قطاع التعليم نتيجة لجعل اللغة الإنجليزية إلزامية بدايةً من الصف الأول، فضلًا عن توفير دورات البرمجة، وتطوير برامج الرياضة المدرسية.

 

الوضع الاجتماعي والسياسي للمرأة

          أحرزت ألبانيا تقدمًا ملحوظًا في تعزيز مشاركة المرأة في الحياة السياسية؛ ووفقًا للخريطة العالمية "المرأة في السياسة" لعام 2023 التي وضعتها منظمة الأمم المتحدة للمرأة والاتحاد البرلماني الدولي، تحتل البلاد المرتبة  الأولى من حيث حصة وزيرات الحكومة من النساء، والمرتبة الثانية والأربعين من حيث النسبة المئوية للنساء في البرلمان الألباني، مما يمثل تقدمًا بمقدار 12 مركزًا عن عام 2021 عندما احتلت ألبانيا المرتبة 54 عالميًّا. ومع ذلك، لا يزال تمثيل المرأة أقل مقارنة بالرجال على المستوى المحلي: فقد فازت النساء بنسبة 44 ٪ من مقاعد المجالس المحلية خلال الانتخابات المحلية لعام 2019، كما تم انتخاب رؤساء بلديات من النساء في 8 بلديات فقط من أصل 61 بلدية، أي بنسبة بلغت 13٪ فقط، وهو معدل أقل من متوسط الاتحاد الأوروبي.

          كانت منظمة الأمم المتحدة قد تواصلت من خلال مكتبها في ألبانيا مع قادة الأحزاب السياسية قبل انطلاق الحملة الانتخابية في البلاد، ودعت إلى إشراك المرأة الكامل والهادف في الانتخابات المحلية، وقدمت مجموعة من التوصيات في ثلاث مجالات رئيسية. أولاً، مواصلة تعزيز تمثيل المرأة على المستوى المحلي: دعت الأمم المتحدة الأحزاب السياسية إلى الالتزام الصارم بحصة 50٪ للنساء والرجل على قدم المساواة في قوائم المرشحين لعضوية المجالس على النحو المنصوص عليه في قانون الانتخابات، وكذلك المشاركة النشطة لجميع النساء والفتيات في الانتخابات كناخبات ومرشحات، بما في ذلك النساء والفتيات ذوات الإعاقة، ونساء الروما والمصريات، والشابات والنساء والفتيات الريفيات، كما ودعت الأمم المتحدة على وجه التحديد إلى زيادة عدد المرشحات لمناصب رؤساء البلديات، إلا أنَّ 15 فقط من أصل 144 مرشحًا لرئاسة البلديات (10.4 ٪) هم من النساء، وهي نسبة أقل مقارنة بنسبة المرشحات من النساء في الانتخابات المحلية لعام 2019.

          تُمثِّلُ الخطط والسياسات والميزانيات الوطنية فرصًا استراتيجية للحكومات لتحويل التزاماتها إلى خطوات عملية لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة بحلول عام 2030، وهو التزام مركزي ضمن أهداف التنمية المستدامة؛ حيث يتطلب الوفاء بالالتزامات المتعلقة بالمساواة بين الجنسين أدوات مبتكرة في مجال السياسة العامة مثل الميزنة المراعية للنوع الجنساني (GRB)، والتي تقيّم الفجوات بين الجنسين بشكل شامل وتحدد الإجراءات اللازمة لسدها.

          تم تحديد الميزنة المراعية للنوع الجنساني كأداة رئيسية للنهوض بالمساواة بين الجنسين من خلال الإجراءات الحكومية. وفي هذا الصدد، اتخذت ألبانيا خطوات مهمة نحو تبني الميزنة المراعية للنوع الجنساني بشكل رسمي على المستويين المركزي والمحلي على حدٍّ سواء، إلا أنه لا تزال هناك فجوات لضمان التطبيق المنهجي لنهج الميزنة المراعية للنوع الجنساني في جميع قطاعات التخطيط والميزنة الحكومية. ويلزم تحسين الإحصاءات والتحليلات الجنسانية المتعلقة بالنوع الاجتماعي مع تطبيق أكثر فعالية لنظم رصد أداء الميزانية. ولقد كانت ألبانيا رائدة في التخطيط والميزنة المراعية للنوع الجنساني على مر السنين، كما شرعت في تكييف تشريعاتها وأدواتها السياساتية وفقًا لذلك، ولا تزال الآليات القائمة تتطلب الدعم من أجل تنسيق العمل الحكومي على المستويين المركزي والمحلي. كما سيستفيد استيعاب مجموعة القوانين والقواعد والقرارات والبيانات واللوائح والتوجيهات والمعاهدات المتعلقة بالمساواة بين الجنسين في الاتحاد الأوروبي، والمعروفة باسم "المكتسبات في مجال المساواة بين الجنسين في الاتحاد الأوروبي"، وخاصة في وحدات الحكومة المحلية، من استمرار الاستثمارات في هذا المجال.

          ثانياً، معالجة التحيز الجنساني والتحرش ضد المرشحات: يجب أن تتعاون الأحزاب السياسية المشاركة في السباق الانتخابي بنشاط وبصورة فعالة مع وسائل الإعلام وهيئة الإعلام المرئي والمسموع، لضمان توفير القدر الكافي من التغطية الإعلامية للمرشحات، والامتناع عن استخدام اللغة المهينة والقوالب النمطية الجنسانية وغيرها من أنواع العنف القائم على النوع الاجتماعي. وقد أظهر تقرير رصد ومراقبة وسائل الإعلام الذي أجرته هيئة الأمم المتحدة للمرأة  خلال فترة الانتخابات الوطنية لعام 2021 في ألبانيا، أن وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية تقوض باستمرار المرشحات وتقلل من شأنهن بشكل متكرر. بالإضافة إلى ذلك، أكدت دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في ألبانيا أن النساء السياسيات، مقارنة بالرجال، أكثر عرضة لتجربة العنف. وهنا، ينبغي على الأحزاب السياسية اتخاذ تدابير لمنع ومكافحة التحرش والعنف ضد المرأة في الانتخابات بشكل فعال، بما في ذلك عن طريق تعديل التشريعات لمعالجة العنف ضد المرشحات والناخبات والمسؤولات المنتخبات، كما ينبغي حماية التصويت الحر للنساء والفتيات، من خلال مكافحة التصويت الأسري والإكراه وترهيب الناخبات.

ثالثًا، تعزيز نتائج المساواة بين الجنسين على المستوى المحلي: تمثل انتخابات المزمع عقدها في 14 مايو فرصة فريدة لتحقيق تكافؤ الفرص والمشاركة في صميم الأجندة السياسية المحلي للتنمية المستدامة، ويشمل ذلك الاستثمار في تعليم الفتيات، وتمكين المرأة اقتصاديًّا، فضلاً عن تعزيز الخدمات المالية والاجتماعية مثل تنمية الطفولة المبكرة وإمكانية الوصول إلى رياض الأطفال، كما يجب أن تصبح الخدمات متاحة لجميع النساء والفتيات، بما في ذلك الفئات الأكثر تهميشًا. بالإضافة إلى ذلك، يجب على القادة المنتخبين أيضًا الاستمرار في إعطاء الأولوية للأداء الفعال وتوفير الموارد لآليات الإحالة المحلية للاستجابة المنسقة للعنف المنزلي، كأداة رئيسية للحفاظ على حماية وإعادة إدماج النساء والفتيات الناجيات من العنف وكذلك المعرضات لخطر العنف، خاصةً وأن تعزيز مشاركة المرأة سيساعد ألبانيا على إحراز مزيد من التقدم نحو خطة التنمية المستدامة لعام 2030. وهنا، لا ينبغي للرجال والنساء على حد سواء أن يقبلوا أن يقوم النساء بدور المشاهدين سلبيين فقط، بل يجب عليهم أن يعملوا معًا لخلق بيئة من تكافؤ الفرص، حيث سيمكننا من خلال إشراك المرأة في عملية صنع القرار في أن نساهم بنشاط في خلق مجتمع أكثر مساواة للجميع.

 

4- الخاتمة

          تعمل ألبانيا على وضع المساواة بين الجنسين في مركز سياسات وعمليات التخطيط والميزنة من أجل التنمية الوطنية وتكامل الاتحاد الأوروبي، والدعوة إلى توفير تمويل عام شفاف وكافٍ لتحقيق المساواة بين الجنسين، بما في ذلك الميزانيات المراعية للنوع الجنساني والتي توجه الموارد الكافية لكل من النساء والرجال.

          تضع ألبانيا المساواة بين الجنسين والشباب الألباني كأحد مبادئ عملية التخطيط والميزنة لديها، الأمر الذي أدى على مر السنين إلى زيادة مخصصات الميزانية التي وضعت في سبيل تحقيق نتائج فيما يتعلق بمسألة المساواة بين الجنسين، كما تتمتع هيئة الأمم المتحدة للمرأة بتاريخ طويل في تعميم الميزنة المراعية للنوع الجنساني في ألبانيا مما ساهم في صياغة عدد من القوانين التي تنظم تطبيق الميزنة المراعية للنوع الجنساني في تخطيط الميزانية المتوسطة الأجل والسنوية، وأصبحت المساواة بين الجنسين الآن مبدأً أساسيًا في قانون الميزانية الأساسية (منذ عام 2016). بالإضافة إلى ذلك، مهدت الموافقة على قانون "تمويل الحكومات المحلية" الطريق أمام الإدماج الفعال للموازنة المراعية للنوع الجنساني في برمجة الميزانية ورصدها إعداد التقارير عنها وتقييمها.

          قدمت المنظمات الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة للمرأة الدعم للمؤسسات الوطنية والمحلية على مدار السنوات الماضية في تعميم مراعاة النوع الجنساني في تخطيط السياسات والميزنة. من ناحية، قمنا بتنفيذ مبادرات لتعزيز قدراتهم في تحليل وتصميم وتنفيذ الخطط والميزانيات المراعية للنوع الاجتماعي، بينما من ناحية أخرى قدمنا الأدوات والقدرات المناسبة لرصد وتتبع مخصصات الميزانية والنفقات من منظور النوع الاجتماعي. لأول مرة في ألبانيا، يمكن تتبع النفقات المتعلقة بالمساواة بين الجنسين وقياس تأثيرها بفضل نظام معلومات الإدارة المالية الألباني المحسّن والمُبتَكَر.

          تُبنى الأنظمة التعليمية المنصفة والعادلة على أسس من مستويات عالية ومتساوية من الوصول إلى التعليم والمشاركة فيه وتحقيق الإنجاز فيه أيضًا، ولا يمكن أن يكون النظام عادلاً إذا كانت فوائده متاحة فقط لأقلية بعينها دون أخرى أو إذا لم يكن متاحًا للجميع بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الطائفة أو الحالة الاجتماعية، وتتضمن الدلائل الرئيسية الثلاثة على الأنظمة العادلة: مستوى الوصول إلى التعليم، ومعدلات المشاركة، ومستوى التحصيل الأكاديمي لجميع المستويات التعليمية بما في ذلك مرحلة ما قبل المدرسة والابتدائية والثانوية والجامعية.

          تم استخدام إمكانية الوصول إلى التعليم، والمشاركة فيه، وتحقيق النجاح فيه أيضًا بشكل تقليدي كمؤشرات رئيسية للمساواة بين الجنسين في قطاع التعليم، وستكون جميعها محورًا لهذا الفصل. ومع ذلك، سيتناول الفصل التالي مؤشرات إضافية مهمة بشأن المساواة بين الجنسين في المدارس والتي تؤثر أيضًا على المساواة بين الجنسين في المجتمع ككل.

          على الرغم من ذلك، ضعفت هذه المساواة خلال الفترة الانتقالية، وهناك أدلة من بعض البلدان على ظهور فجوات بين الجنسين على جميع مستويات النظام، خاصة في المستويات غير الإلزامية. علاوة على ذلك، بالنسبة لبعض الفئات التي يكون من الصعب عليها بالفعل الحصول على التعليم مثل الروما أو الفقراء للغاية، يكون الحضور في بعض الأحيان أقل بين الأطفال من جنس واحد، كما أن الفتيات هن دائمًا الأكثر تضررًا، على الرغم من أن الأولاد قد تعرضوا أيضًا للحرمان في بعض البلدان.

 

 

 

2- الدكتورة نيفين مسعد - جمهورية مصر العربية

نحو التضمين والمشاركة للمرأة والشباب والجماعات الثقافية

تمهيد

يتناول هذا البحث الذي شرُفتُ بتكليفي به من مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية داخل محور السلام والتنمية الاجتماعية في إطار المنتدى العالمي الثالث لثقافة السلام العادل-قضيةً جوهريةً تدخل في صلب اهتمام معظم دول العالم بحكم ارتباطها العضوي بالعديد من القضايا الأساسية كقضية التعددية المجتمعية والمواطَنة اللتين تعدّان من مقومّات الحكم الرشيد ومن عناصر التنمية المستدامة لأنه لا حوكمة ولا تنمية في ظل سياسات التمييز والإقصاء. كما أن هذه القضية لها انعكاساتها على وضع الاستقرار السياسي الذي يتأثّر بمدى شعور المواطنين بالانتماء لدولهم، وعندما ننظر للصراعات الداخلية في وطننا العربي نجد أنها في نشأتها ارتبطَت بغياب الديمقراطية والعدالة التوزيعية واحترام الخصوصيات الثقافية للجماعات المختلفة، ومن بعد تعقّدت هذه الصراعات بالتدخلات الخارجية من القوى الإقليمية والدولية، لكن الداخل كان هو الأصل. ومن هنا نجد شيوعًا لمبدأ عدم إهمال أو No one is left behind الذي يعني ضمان وصول الجميع لكافة الخدمات والتمتَع بنفس الفرص بغض النظر عن الاختلاف في الدين أو العِرق أو السن أو الصحة... إلخ، واعتماد المنظمات الدولية وكذلك الدول و منظمات المجتمع المدني لهذا المصطلح في وثائقها وفي خططها التنموية المستقبلية لعام 2030 وما بعده. وفي هذا السياق سينقسم البحث إلى قسمين أساسيين، القسم الأول يقدّم إطارًا نظريًا لموضوع تضمين المرأة والشباب والجماعات الثقافية، ويتعرّض للمفاهيم والمصطلحات المرتبطة بهذا الموضوع والإشكاليات التحليلية التي يثيرها. والقسم الثاني يستعرض أهم المداخل العملية المطروحة لتحقيق هذا التضمين.

وقبل الذهاب لمناقشة هذين القسمين تجدر الإشارة إلى بعض التعديلات التي تمّ إدخالها على عنوان البحث كما ورد في التكليف وهو "تأمين الإدماج والمشاركة للمرأة والشباب والأقليات" بحيث أصبح على النحو التالي "نحو التضمين والمشاركة للمرأة والشباب والجماعات الثقافية". وذلك لأن استخدام كلمة نحو بدلًا من تأمين يفيد الحركة الدائمة ويعطي معنى العملية process التي تهدف لتحقيق المواطَنَة الكاملة للجميع كما سيتضّح لاحقًا، وهو هدف لم يتحقق بشكل كامل حتى في أعتى النظم الديمقراطية وأعرقها من حيث تاريخها في الممارسة الديمقراطية. من جهةٍ أخرى فضّل البحث استخدام مصطلح التضمين inclusion بدلًا من مصطلح الإدماج الذي تتم ترجمته أحيانًا amalgamation والوارد في التكليف الأصلي، وذلك لأن الإدماج وإن استخدمَته عدة وثائق دولية كمرادف للإشراك، إلا أنه يختلط في الذهن بتذويب خصوصيات الجماعات المختلفة بالقوة كما حدث مثلًا مع اتباع سياسات التعريب والأسلمة في السودان والتي انتهت بانفصال الجنوب عن الشمال. وفي المقابل فإن التضمين مصطلح واضح في مدلوله لأنه يركّز على الاحتواء الطوعي الذي يتحقق عن طريق مدّ مظلة المواطنة فوق كافة أبناء الوطن. كما أن البحث استعاض عن مصطلح الأقليات minorities في التكليف الأصلي بمصطلح الجماعات الثقافية cultural groups وذلك لسببين أساسيين، السبب الأول هو أن مفهوم الأقليات أصبح يثير حساسيات مختلفة سواء نتيجة بعض الرواسب التاريخية التي أدّت للنظر لحَمَلة صفة الأقلية على أنهم في وضع أقل من وضع سواهم من المواطنين، أو بحكم أن ارتباط المفهوم لغويًا بالعدد بحيث نكون إزاء أقلية عددية في مواجهة أغلبية عددية-يفترض وجود إحصاءات سكانية تأخذ في اعتبارها اختلافات السكان في اللغة والدين والمذهب والعِرق ونِسب كلٍ منها، وهو ما لا يتحقَق في كثير من الدول بما في ذلك دولنا العربية. والسبب الثاني هو أن مفهوم الأقليات يشمل الجماعات الثقافية وكذلك النساء والشباب والمسّنين وذوي الاحتياجات الخاصة وسكان المناطق النائية وكافة المهمشين بشكلٍ عام ممن لا يحظون بمعاملة متساوية مع غيرهم بسبب اختلافهم عن الآخرين، وبالتالي فإن استخدام مفهوم الجماعات الثقافية بدلًا من الأقليات يجعله أكثر تحديدًا خصوصًا مع وجود المرأة والشباب كفئتين مستقلتين في العنوان.

 

القسم الأول: الإطار النظري

يتطلّب الحديث عن الحاجة إلى تضمين الجميع في العملية السياسية واستفادتهم من خطط التنمية الاقتصادية/الاجتماعية وتمكينهم من التعبير عن ذواتهم الثقافية-الحاجة إلى مناقشة مفهومين أساسيين، هما مفهوم التنوّع diversity من جانب، ومفهوم المواطَنَة citizenship من جانب آخر. وذلك أن إشكالية الإقصاء أو التهميش لبعض مكوّنات المجتمع إنما ترتبط بوجود أشكال مختلفة من الاختلافات بين مكونات المجتمع الواحد يتم اتخاذها ذريعة لسياسات التمييز والحرمان والمعاملة غير المتساوية.

 

1.    التنوّع: التعريف والإشكاليات النظرية

‌أ.       التنوّع هو صفة من صفات كافة المجتمعات البشرية بدون استثناء، فلا يوجد مجتمع على الأرض يخلو من درجة أو أخرى من درجات التنوّع بين مُختَلَف مكوّناته، بل إن معايير هذا التنوّع تزيد يومًا بعد يوم مع الوعي بأهمية أخذ المزيد من الاختلافات الموجودة بين البشر بعين الاعتبار. هذا التنوّع الكبير هو الذي جعل تشارلز تيلور أحد أبرز المدافعين عنه يتحدث عن التنوّع العميق deep diversity، وجعل جابر عصفور وهو من نفس مدرسة تيلور يعظّم قيمة الاختلاف التي هي جوهر التنوّع وأساسه، ليس فقط اعترافًا بالآخر واحترامًا لخصوصيته، ولكن كذلك كما يقول لأنه لا يوجد يقين قط إلا بعد أن تكون هناك اختلافات. واتساقًا مع هذا الاتساع في أبعاد التنوّع، ذهب بيت الخبرة ماكينزى في تعريفه التنوّع إلى أنه كل ما من شأنه أن يجعل الإنسان مختلفًا عن الآخر، وبما يتجاوز الخصائص الشكلية التي من الممكن التعرّف عليها بالملاحظة المباشرة كاللون والنوع والعُمر والدين (لو اقترن برموز وعلامات وأزياء معينة) والإعاقة الجسدية، إلى الاختلاف في التكوين النفسي وظروف التنشئة والمستوى الاقتصادي-الاجتماعي وتجارب الحياة. وتبنّي هذا التعريف ذاته أكاديميون عدّة، ومن قبيلهم عامر فيّاض.

 

نحن إذن عندما نتحدّث عن التنوّع فإننا نقصد مروحة واسعة جدًا من الاختلافات بين البشر وبعضهم البعض، لكن بين كافة أبعاد هذا التنوّع يحظى البعد الثقافي باهتمام دولي خاص. ويفسّر لنا ذلك عبد الحسين شعبان بقوله إن ثلاثة أرباع الصراعات الكبرى في العالم وفق إحصائيات الأمم المتحدة، إنما تعود في جذورها لأسباب ثقافية. وهذا التفسير يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمحاولات العولمة طمس الهويّات الثقافية لشعوب العالم الثالث وإذابة خصوصياتها فيما يسميه جابر عصفور بالمركزية الأمريكية-الأوروبية، وبما يضمن وجود مركز واحد للثقافة وجعله في وضع الهيمنة على غيره من المراكز الثقافية الأخرى. ولئن لجأت مجموعة من دول العالم الثالث لمواجهة هذا الخطر باشتغالها على مفهوم التنوّع الثقافي وإصدارها من خلال منظمة اليونسكو تقريرًا رصينًا عن التنوّع البشري الخلاّق في عام 1990، واهتم عصفور بترجمته إلى العربية-إلا أن هذا لم يحل دون أن يصحو العالم صبيحة يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 على تفجير برجّي التجارة العالميين في نيويورك. هذا التطوّر الخطير حدا بالأمم المتحدة إلى الالتفات باهتمام أكبر لظاهرة التنوّع الثقافي، فكان أن أصدرَت في عام 2001 نفسه الإعلان العالمي للتنوّع الثقافي مؤكدّةً على أن الثقافة باتت تحتل مكان الصدارة في المناقشات المعاصرة بشأن الهوية والتماسك الاجتماعي وتنمية الاقتصاد القائم على المعرفة، وداعيةً لاحترام تنوّع الثقافات والتسامح والحوار والتفاهم كخير ضمان لتحقيق السلم والأمن الدوليين. أي أن الإعلان لم يكتفِ بالتأسيس لأهمية الحفاظ على التنّوع من منظور المصلحة الوطنية لكل دولة، لكنه ربط الحفاظ على التنوّع بالسلم والأمن الدوليين. وفي خطوة تالية على خطوة إصدار الإعلان العالمي الخاص بالتنوّع الثقافي-جعلَت الأمم المتحدة اعتبارًا من عام 2002- من يوم 21 مايو يومًا يحتفل فيه العالم بالتنوّع الثقافي.

وفي محاولة لقياس درجة التنوّع الثقافي لدول العالم المختلفة، ذهب المحللون السياسيون والاجتماعيون مذاهب مختلفة. وأحد أبرز وأشهر الاجتهادات في هذا الخصوص ما قام به إركان جورين Erkan Gören إذ قام بتصميم مقياس للتنوّع الثقافي وتوزيع الدول عليه من صفر إلى 1 وفق معيار عدد اللغات واللهجات داخل كل دولة، ومنطقه في ذلك هو أن الاشتراك في اللغة عادةً ما يؤدي إلى الاشتراك في باقي العناصر والمقومات الثقافية الأخرى. وبالتالي ووفق هذا المعيار وجد جورين أن دولة مثل تشاد يوجد بها أكثر من 100 لغة ولهجة محليّة تعّد أكثر تنوعًا من دولة مثل كندا التي يُنظر لها في أدبيات أخرى كثيرة بوصفها الدولة الأكثر تنوعًا على مستوى العالم. وبطبيعة الحال يمكن انتقاد هذا المعيار من أكثر من زاوية، ومن ذلك أن هناك دولًا كثيرة تشترك جماعاتها في نفس اللغة لكن هذا لا يقود تلقائيًا إلى اشتراكها في باقي المكوّنات الثقافية، وكمثال تعّد اللغة العربية قاسمًا مشتركًا بين غالبية شيعة العراق وسنتّه، إلا أن هذا لم يؤد لإلغاء التنوّع والاختلاف بين هاتين الجماعتين على مستوى المذهب وما يرتبط به من طقوس وعادات وتقاليد. كذلك فإن مسألة التنوّع هي من حيث طبيعتها مسألة معقّدة، وجزء من هذا التعقيد أن الشعور بالاختلاف عن الآخرين فيه جانب نفسي ومعنوي ومرتبط بطريقة إدارة التنوّع ومدى مرونتها، بمعنى أنه ليس كل مختلف في اللغة يجعل من هذا الاختلاف حائط صد بينه وبين الآخرين، وكمثال فإن الأرمن في مصر يتكلمون اللغة العربية وإن كانوا قد يستخدمون اللغة الأرمينية في داخل دوائرهم الخاصة، كما أن اللغة القبطية موجودة في مصر لكنها غير متداولة ولا تستخدم إلا للصلاة في داخل الكنائس، وبشكلٍ عام توجد مساحات مشتركة كثيرة وواسعة بين مكوّنات المجتمع المصري على نحو لا يمكن معه الادعاء أن الرصيد الثقافي والحضاري المصري هو نتاج مكوّن واحد فقط.

 

‌ب.  من أهم الاشكاليات النظرية التي ترتبط بمفهوم التنوّع، ما يلي:

·       العلاقة بين مفهوم التنوّع ومفهوم التعددية pluralism، ففي كثير من الأحيان يتم استخدام المفهومين كما لو كانا مترادفين وهذا غير صحيح. ولتوضيح الفارق بين المفهومين يمكن القول إنه بينما يفيد التنوّع في الإجابة عن سؤال ما هي خصائص الخريطة الديموجرافية لمجتمع من المجتمعات من حيث التركيب العمري والنوعي والديني... إلخ، فإن التعددية تفيد في الإجابة عن سؤال كيف يمكن توفير نفس الفرص والموارد والمزايا لجميع مكوّنات هذه الخريطة المتنوّعة دونما تمييز فيما بينها. بتعبير آخر فإن التنوّع يَعنِي الاعتراف بوجود اختلافات بين البشر، أما التعددية فإنها تُعنَي بنشر ثقافة المواطَنة ورسم السياسات وتوفير الأدوات التي تسمح باحتواء الجميع وتفعيل هذه الثقافة. ويقودنا ما سبق إلى تناول مفهوم آخر يرتبط بمفهوم التعددية ارتباطًا وثيقًا وهو مفهوم التضمين inclusion أو الاحتواء، الذي بمقتضاه لا يتم إهمال أحد أو تهميشه لأنه مختلف. وكما أن التنوّع ليس هو التعددية، فإن التنوّع أيضًا ليس هو التضمين. ويعطينا بيت الخبرة ماكنزي مثالًا على وجود التنوّع في غياب التضمين بالتطبيق على بعض المؤسسات التي ترغب في إثبات تنوّعها فتقوم بالاستعانة بموظّف ملوّن واحد و موظّفة امرأة واحدة وسط فريق عمل كله من الذكور البيض، بيد أن هذه الممارسة تكون لها آثار نفسية سيئة على كلا الموظَفين لأنها تشعرهما بالاغتراب وتضعف انتماءهما لمكان العمل، كما أنها تشعرهما-وهذا أخطر- بأنهما جاءا إلى المؤسسة التي يعملان بها لتمثيل جماعة الملونين أو النساء التي ينتميان إليها وهو ما يضع على كاهليهما عبئًا لا هما مكلفان به ولا هما مستعّدان لتحمّله بالضرورة.

 

·       ثمة معضلة تطرحها ظاهرة الهجرة بالنسبة للدول التي تتمتّع بالتنوّع الثقافي وبالأساس دول الاتحاد الأوروبي وكندا، وذلك نتيجة عاملين أساسيين، العامل الأول هو تزايد معدلات الهجرة إلى هذه الدول بسبب انتشار الصراعات المسلّحة بالذات في منطقة الشرق الأوسط، والعامل الثاني هو القلق من تأثير التغيّر في التركيبة الديموجرافية على منظومة القيم الغربية، ومما يساعد في تغذية القلق الثقافي صعود تيار اليمين المتطرّف في عدد لا بأس به من دول العالم، بل إن دولة بالغة الانفتاح على التنوّع مثل كندا أخذَت تتكرر فيها في السنوات الأخيرة أعمال العنف التي تستهدف المواطنين من غير الأصول الكندية، ودولة مثل الهند كانت نموذجًا للإدارة الجيّدة للتنوّع الثقافي تتنامى فيها المشاعر المعادية للمواطنين المختلفين في الدين.

 

وفي مناقشته هذه المعضلة استعرض فرانسيس جارون حالة الاستقطاب التي عانت منها ولازالت الدول المتنوّعة ثقافيًا بسبب الجدل حول مطالب المهاجرين ومدى تمتّعها بالشرعية وردّ فعل النخب والمجتمع نفسه في مواجهتها، أو بتعبير آخر الجدل بين سردية معينة والسردية المضادة لها. ويشير في هذا الخصوص إلى تلك اللجان المعنية بمناقشة وتقييم ظاهرة التنوّع الثقافي، والتي تمّ تشكيلها في ثلاث دول هي فرنسا وبريطانيا وكندا وتكليفها بمهام جوهرها هو طرح أفكار حول الموازنة بين تفعيل التنوّع كمظهر من مظاهر الحكم الديمقراطي من جهة، والحفاظ على الخصوصية الثقافية للمجتمعات الغربية من جهة أخرى، والعمل على تحقيق التوافق السياسي حول الحلول التي يتم التوصّل إليها. هذه اللجان هي لجنة ستاسي La Commission de Stassi التي تشكّلت في الفترة من يوليو إلى ديسمبر 2003، وبحثَت في كيفية التعاطي مع تنامي الرموز والعلامات الدينية لمسلمي فرنسا (الحجاب بالذات) وتأثيرها على العلمانية وقيم الجمهورية الفرنسية. ولجنة بريطانيا متعددة الأعراق Commission of Multi Ethnic Britain التي عملت في الفترة من عام 1998 حتى عام 2000 وعكَفَت على دراسة واقع التعدّد الإثني في بريطانيا وكيفية الموازنة بين الديمقراطية الأنجلوساكسونية والثقافة والتقاليد البريطانية. ولجنة بوشار و تيلور La Commission Bouchard -Taylor التي مارست دورها من عام 2007 لعام 2008، وذلك في ذروة الانقسام داخل مقاطعة كيبك الكندية الناطقة بالفرنسية وتنامي النزعات المدافعة عن قيم وأسلوب حياة كيبك. والآن وبعد مرور ستة عشر عامًا على انتهاء عمل آخر هذه اللجان أي اللجنة الكندية، فإن من الواضح أن مشكلة الهجرة مازالت عصيّة على التعامل معها بدليل تزايد أعمال العنف الديني في فرنسا على وجه الخصوص، ما يعني الحاجة إلى بذل مزيد من الجهد في هذا الاتجاه. جدير بالذكر أن دراسةً في عام 2016 أجراها ريتشارد وايك وآخرون عن اتجاهات الرأي العام داخل عشر دول في الاتحاد الأوروبي تجاه المهاجرين- كشفَت عن أن 63٪؜ من اليونانيين و53٪؜ من الإيطاليين يرون أن زيادة التنوّع تجعل بلديهما أسوأ مكان للعيش، في مقابل أن 36٪؜ داخل السويد و33٪؜ في بريطانيا و31٪؜من الأسبان ينظرون لتزايد التنوّع بشكل إيجابي.

 

2.    المواطَنَة: التعريف والإشكاليات النظرية

‌أ.       يعرّف وليم سليمان قلادة-أحد أبرز رواد مدرسة المواطَنَة- مفهومها بأنه يتضمّن ابتدًاء الانتماء للأرض والمشاركة والمساواة، ثم تأتي بعد ذلك جهود الأفراد في إطار الجماعة السياسية لممارسة المواطَنَة والدفاع عنها وتسجيلها في وثيقة دستورية، فإذا ما تحقّق هذا الأمر ووصلنا إلى مرحلة وضع الدستور المُعبّر عن الجميع تحوّلت الأرض إلى وطن وتحوّل الفرد إلى مواطن. وكما نرى فإن هذا التعريف يقوم على توفّر ثلاثة أركان أساسية للمواطَنة، وأن هذه الأركان وإن تكن من مستلزمات المواطَنَة، إلا أنها تحتاج إلى عملية نضالية مستمرة ومتواصلة من أجل تحويلها إلى مجموعة من الحقوق الدستورية الملزمة للحاكم. ولقد جاء سمير مرقس-أحد أبرز مَن تتلمذوا على يد قلادة- ليعيد تبويب أو بمعنى أدّق تصنيف أركان المواطَنَة بحديثه عن ركن مادي يشمل العدالة والمساواة والحرية، وركن معنوي يتضّمن الشعور بالارتباط بالأرض والهوية والانتماء. ويدفع مرقس حركة المطالبة بتحقيق المواطَنَة والتمسك بحقوقها خطوةً أبعد عندما يجعل العلاقة بين الحركة والمواطَنة علاقةً جدلية وشَرطية في الوقت نفسه، أو على حد تعبيره فإنه "دون الحركة لا تتحقق المواطَنَة، ولا مواطَنَة دون حركة". هذه الحركة أو العملية التي يطلق عليها "المواطنية" تقتضي أخذ السياق الاجتماعي والبناء الطبقي ونمط الإنتاج والتطور السياسي والأيديولوجي لكل دولة بعين الاعتبار، كما تقتضي مراعاة المتغيَرات الخارجية الإقليمية والدولية.

 

وفي هذا السياق يرى علي خليفة الكوّاري أن تاريخ المواطَنَة هو نفسه تاريخ سعي الإنسان بشكلٍ مستمر من أجل تحقيق العدالة والإنصاف، لأنه إذا كانت حقوق المواطَنَة قد اقتصَرَت في مراحل تاريخية معينة على الذكور فقط أو على الأصحّاء فقط أو على الأحرار فقط، فإنها اتسعّت مع التطوّر لتشمل الجميع وتُسقط ظاهرة الرّق. وكما اختلف نطاق المواطَنَة والمشمولين بها، اختلف أيضًا جوهرها ومضمونها، وهنا تشير عديلة كورتينا إلى أن المواطَنَة هي مفهوم ذو تاريخ طويل في التراث الغربي، اتخّذ أبعادًا قانونية بمعنى المساواة أمام القانون في تطبيقه اللاتيني، وأبعادًا سياسية بمعنى التمثيل النيابي في تطبيقه اليوناني، إلى أن أصبَحَت الحقوق الاقتصادية هي جوهر المواطَنَة الاجتماعية، ولم يعد بالإمكان تجاهُل البعد العام للاقتصاد عند الحديث عن المواطَنَة.

 

‌ب.  يثير التعاطي مع موضوع المواطَنَة مجموعة من الإشكاليات النظرية التي ترتبط به، ومن ذلك:

·       العلاقة بين مفهومّي المواطَنَة وحقوق الإنسان، وهي علاقة وثيقة بطبيعة الحال طالما أننا اتفقنا على أن جوهر المواطَنَة هو حزمة من حقوق الإنسان أخذَت مكوناتها في التطوّر والتعمّق عبر التاريخ. لكن ثمة اجتهادات في هذا الموضوع، ومن ذلك أن هيثم منّاع يذهب على سبيل المثال إلى أن مفهوم المواطَنَة الذي ينبع من الوطن ويُرتّب حقوقًا متساوية للشركاء في هذا الوطن إنما يمثّل خطوة متأخّرة عن مفهوم حقوق الإنسان الذي يعني تمتّع كافة البشر بنفس الحقوق بغّض النظر عن انتماءاتهم الوطنية. ويمكن القول إن هذا الطرح الذي قدمّه منّاع يمكن أن يلفت الانتباه إلى وضع بعض الجماعات التي لا تحظى بصفة المواطَنَة لأسباب مختلفة، ومن هذه الفئات البدون من غير حاملي جنسية الدولة التي ولدوا وعاشوا فيها، وهذه القضية بالذات على درجة من الحساسية والتعقيد في الوقت نفسه، لكنها تشهد حراكًا يهدف إلى تحجيمها من خلال منح الجنسية لأعدادٍ من البدون بعد تدقيق أوضاعهم في الدول التي يعيشون بها. كما أن طرح منّاع يمكن إن يلفت الانتباه إلى أوضاع الجماعات التي تمثّل بقايا ظاهرة العبيد رغم انحسارها الشديد، إلا أن ثمة أشكالًا جديدة وبتعبير أدق غير مباشرة باتت تتخذّها هذه الظاهرة، أبرزها المعاملة غير المنصفة لأبناء العبيد المحرَرين في مجال العمل، ومعاناتهم من النظرة المجتمعية الدونية، وهو الأمر الذي يعني الحاجة إلى مزيد من التوعية والتثقيف والتربية على المواطَنَة.

 

·       العلاقة بين مفهومّي المواطَنَة والهوية، وهي أيضًا علاقة متداخلة فالانتماء الجغرافي الذي يُعّد أحد مكوّنات الركن المادي للمواطَنة يدخل أيضًا في تكوين الشعور بوجود هوية مشتركة بين مجموعة من الأفراد، لكن في الوقت نفسه فإن هذا العنصر ليس هو الوحيد الذي يسهم في تكوين هذا الشعور، فلا تَقّل عنه أهمية، بل تزيد عناصر مثل وحدة الدين أو المذهب أو اللغة أو التاريخ في تخليق الشعور بالتقارب بين المشتركين فيها وبالتالي بالتمايز عمن سواهم. ومن هنا توصف المواطَنَة بأنها ذات طابع حقوقي متعدّد الأبعاد، بينما توصف الهوية بأنها ذات محتوى ثقافي بالأساس. وبحكم أنه لا يوجد مجتمع أحادي الهوية كما سبق أن رأينا عندما تعرّضنا لمفهوم التنوّع، فإن وجود عدد من الهويات الفرعية في داخل المجتمع الواحد لا يجب أن يكون مبررًا للتمييز فيما بينها، فتعدّد الهويات لا يتعارض أبدًا مع تمتعها جميعًا بكافة حقوق المواطَنَة طالما كان الحديث يدور عن المجتمعات الديمقراطية وليس عن المجتمعات الشمولية أو التسلطية، فالديمقراطية قرينة للمواطَنة وهذا أمر واضح في المشروع الفكري لعلي خليفة الكوّاري. ثم أن الهوية مثلها مثل المواطَنَة تتميّز بالطابع الحركي المتغيّر ارتباطًا بتطوّر السياقين الداخلي والخارجي.

 

ولذلك فإن أبرز الكتابات التي تناولَت مفهوم الهوية سواء كانت غربية كمثل كتابات إليكس ميكشللي أو كانت عربية كمثل الكتابات الوفيرة لعبد الحسين شعبان مضَت دائمًا في اتجاه التأكيد على ديناميكية مفهوم الهوية وطابعه الحركي المتطوّر. هذه الديناميكية تظهر في إعادة ترتيب مكوّنات الهوية من وقت لآخر، فمن جهة لا يمكن إغفال أثر الهزائم العسكرية على تعظيم موقع الدين بين مكوّنات الهوية وهو ما نلاحظه في التحولات الإسلامية للكثير من المواطنين العرب والمصريين منهم بالذات في أعقاب هزيمة يونيو 1967، كما لا يمكن إغفال دور السياسات التمييزية في استنفار الخصوصيات القومية المضادة كآلية دفاعية كما في أدبيات حزب العمال الكردستاني. ومن جهة أخرى فإن العولمة هي ظاهرة ولّدت الشيء وعكسه، فهي خلقَت مساحات ثقافية مشتركة ومنظومة من القيم عابرة للحدود، إلى الحدّ الذي ذهبَت معه كتابات كثيرة ومنها كتابات السيد يس للحديث عن فكرة المواطن العالمي أي الذي ينتمي للكوكب وليس لوطن بذاته، لكنها أنعشت أيضًا مشاعر الاختلاف بين البشر. وهنا يثور السؤال التالي: إذا كان من المفهوم أن تلعب التطورات التاريخية المتلاحقة (وهما في المثالين اللذين تم ذكرهما الهزيمة العسكرية والسياسات التمييزية) دورًا في إعادة ترتيب مكوّنات الهوية، فكيف يمكن أن نتصوّر الحال في ظل تطوّر تاريخي محدد (كالعولمة) له تأثير مزدوج بحيث يضعف الخصوصيات الثقافية كالدين والقومية واللغة... إلخ وينعشها في الوقت نفسه؟ الإجابة على هذا السؤال تتوقّف على مجموعة من المتغيّرات التي تتوسَط العلاقة بين العولمة والهوية، ومن هذه المتغيّرات يمكن أن نشير إلى درجة قابلية مكوّنات الهوية للاختراق، فكون اللغة العربية مع الأسف توقّفت عن إنتاج المعرفة منذ عقود بعد أن كان العرب هم الذين علّموا العالَم علوم الرياضيات والطبيعة والفلك والفلسفة... إلخ، فإن هذا يجعلها في حالة تراجع دائم أمام اللغة الإنجليزية على وجه الخصوص، وهذا التراجع لن يتوقّف إلا بتغيّر الظروف التي أدّت إليه واستردّت اللغة العربية قدرتها على التجدّد وإنتاج العلم. يضاف إلى ذلك أن الهوية الكونية أو العالمية يلزمها انفتاح عالمي على الهجرة وتنقلات البشر عبر الحدود، وهذا يتناقض مع ما سبق قوله عن نمو مشاعر الكراهية ضد المهاجرين.

 

·       الظروف المنشِئة للمواطَنة، فإذا كان هناك اتفاق عام بين المنظّرين للمواطَنة على أنها مفهوم يتميّز بالحركة والصيرورة، فإن ثمة اختلاف حول اللحظة التاريخية التي يتكوّن فيها الشعور بضرورة المواطَنَة، إذ يذهب فهد الشقيران على سبيل المثال إلى أن المواطَنَة تنشأ كنوع من الاستجابة لتحدٍ معين. ومن الأمثلة التي تُستخدَم للتدليل على أن المواطَنَة هي وليدة محنة أو أزمة تمّر بها دولة من الدول، المثال الخاص برواندا التي اتجهّت بعد الثمن الباهظ الذي دفعته جرّاء الإبادة الجماعية في صراع الهوتو والتوتسي إلى أهمية تعميق المواطَنة كحاضنة لكافة مكوّنات المجتمع الرواندي وليس فقط العِرقيتين موضع الاشتباك والصراع. ومن ذلك زيادة تمثيل النساء- كإحدى أهم المكوّنات المتضرّرة من حرب الإبادة-إلى ما يتراوح بين 60٪؜ و70٪؜ من كل المناصب بعد توقّف الصراع، بعد أن كانت هذه النسبة لا تتجاوز 19٪؜ قبله، حسبما ذَهَبَت وفاء إبراهيم. كذلك يشار إلى أن سويسرا لم تأخذ بالديمقراطية التوافقية consociational democracy أي توزيع كافة المناصب في شكل حصص على القوميتين الأساسيتين الفرنسية والألمانية، إلا بعد أن مُني المرتزقة السويسريون بالهزيمة في معركة مارينيانو في عام 1515.

ويمكن الاتفاق مع هذا التحليل جزئيًا لأن الرشادة السياسية تفترض قيام الدولة بمعالجة الأسباب التي أدّت للاحتراب أو الهزيمة. ويمكن إسناد ودعم هذا التحليل بنموذج من الواقع المصري حيث يتفق المؤرخون ومنهم عماد أبو غازي ومحمد عفيفي على أن ثورة 1919 هي التي أسسّت للمواطنَة المصرية بمشاركة كافة مكونّات الشعب المصري دينيًا ونوعيًا وعُمريًا وجهويًا في أحداثها، ومهدّت لصدور دستور 1923 كأول دستور ديمقراطي في التاريخ المصري، علمًا بأن هذه الثورة تمثّل استجابةً لتحدي الاحتلال البريطاني وثمرةً لنضال الشعب المصري على امتداد قرن كامل من الزمان. لكن في الوقت نفسه من الصعب تعميم هذا النموذج على بلد مثل لبنان عرفَ حربًا أهلية طويلة لنحو خمسة عشر عامًا رغم أنه كان يطّبق الديمقراطية التوافقية قبل الحرب أي أن هذه الديمقراطية التوافقية سبقَت الحرب ولم تتلها. ثم أن لبنان ورغم الحرب مازالت العلاقة بين طوائفه شديدة التعقيد ومازال الانتماء للهويّات الفرعية يعلو على الانتماء للدولة، وهذا خلل واضح في السياسات التي من شأنها تعميق الشعور بالمواطَنَة. وهذا المثال يلفت الانتباه إلى وجوب إدخال متغيّرات وسيطة في التحليل تمامًا كما في حالة العولمة، ومن هذه المتغيّرات التدخلات الإقليمية والدولية.  

 

القسم الثاني: التضمين ومداخله

من النقاط التي تتكرّر في الأدبيات المعنية بتفعيل التنوّع وتعميق المواطَنَة، النقطة الخاصة بإيجابيات التضمين، والنقطة الخاصة بآليات أو مداخل التضمين، وفي حين سيمّر هذا الجزء من البحث بشكل سريع على النقطة الأولى فإنه سيتعرّض بالتفصيل للنقطة الثانية.

1.    بدايًة بالإيجابيات فإن التضمين يساعد على الاستفادة من الخبرات والمهارات والفروق التي تميّز الأفراد عن بعضهم البعض والجماعة الواحدة عن غيرها من الجماعات، وهذه الاستفادة تتجاوز المكاسب الاقتصادية المباشرة الناتجة عن الإخلاص في العمل بفعل الشعور بالانتماء والاستفادة العادلة من عوائد الإنجاز المتحقق، إلى المكاسب السياسية المتمثّلة في تعزيز أسس الديمقراطية وتحقيق الاستقرار السياسي وتقوية الشرعية، وتتجاوز الاثنين معًا إلى المكاسب الثقافية والحضارية الناجمة عن التفاعل البنّاء بين ذوي الخبرات التاريخية المختلفة في الأدب والعمارة والموسيقى والنحت والطهي... إلخ. واتصالًا بذلك ذَهَبَت منظمة الهجرة إلى أن التنوّع الثقافي بالذات هو محرّك الحياة الحديثة، وأننا كما نصنع التنوّع الثقافي بالسياسات التي نتَبعها بشأنه فإن هذا التنوّع نفسه يصنعنا بنتائجه، فالولايات المتحّدة على سبيل المثال بناها المهاجرون، وصناعة النسيج في بريطانيا أدخلها الهولنديون، وماركة سواتش الشهيرة للساعات طوّرها مهاجر لبناني إلى سويسرا هو نيقولا حايك.

 

وعلى العكس من ذلك فإن الاستبعاد أو الإقصاء exclusion الذي تعرّفه منظمة الإسكوا في تقريرها الثالث للتنمية الاجتماعية بأنه يعني حرمان البعض من المشاركة الكاملة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إنما ينعكس سلبًا على حجم ومستوى الإنجاز المتحقق في هذه المجالات كافةً. وفي معرض تحديد العوامل التي تساهم في عملية الإقصاء يُحيل التقرير إلى ما ورد في إطار العمل الذي طوّره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام ٢٠١٨ وعنوانه" ما معنى عدم إهمال أحد؟"، وهذه العوامل هي التمييز والجغرافيا أي مكان الإقامة وضعف نظام الحوكمة وتردّي المستوى الاجتماعي والاقتصادي والحروب والصراعات. وبطبيعة الحال فإن هذه العوامل ليست جامعة مانعة فهناك مثلًا العامل الخاص بالعادات والتقاليد الذي قد يلعب دورًا مساعدًا على التهميش، لكن على أية حال فإن التقرير المذكور اختار ثلاث حالات تجسّد ظاهرة الإقصاء بفعل بعض العوامل التي اشتمل عليها، وتلك هي حالة سكان المقابر في مصر وحالة سكان إقليم الوسط الغربي في تونس كتجسيد لأثر العامل الجغرافي على التهميش، وحالة حي باب التبّانة في مدينة طرابلس بلبنان كتجسيد لأثر عامل الحروب والصراعات. وتعليقًا على هذا التقرير يمكن محاجاة القول بأن الحالتين فى مصر وتونس بالذات مهمشتان بسبب الجغرافيا، والادعاء على العكس بأن التهميش هو الذي حكم بالسكن في هذه المناطق الجغرافية غير المتمتعة بالخدمات.  

 

2.    ننتقل إلى المداخل المختلفة التي يمكن تحقيق التضمين من خلالها، وهنا نجد أن الأدبيات المتصّلة بالتنوّع والتعددية تحدّد ثلاثة مبادئ تعبّر عن الممارسات الجيدة الكفيلة بهذا الأمر، وتلك هي التنوّع والإنصاف والتضمين Diversity، Equity، Inclusion أو ما يُرمز له اختصاًر في كافة تلك الأدبيات بالحروف الثلاثة الآتية: DEI. وإذا كان قد تم شرح مفهومّي التنوّع والتضمين بالتفصيل فإن مفهوم الإنصاف يشير إلى اتخاذ التدابير التي تجعل أصحاب الظروف غير المواتية متساوين مع غيرهم من أصحاب الظروف العادية. ويمثّل لذلك بيت الخبرة ماكينزي بالقول إن توفير تدريب غير مدفوع الأجر يُعّد فرصة بالنسبة لمَن لديهم دخل ينفقون منه على أنفسهم، لكنه ليس فرصة بالنسبة لمَن لا يستطيعون تدبير معاشهم ويحتاجون إلى مصدر شهريٍ ثابتٍ للدخل. وبالتالي فإن كل المداخل التي سيتّم التعرّض لها تباعًا، وهي الثقافي والمدخل التشريعي/التنفيذي والمدخل التدريبي سوف تسترشد بهذه المبادئ الثلاثة، علمًا بأن الفصل بين المداخل المذكورة هو فصل نظري هدفه تسهيل التحليل، أما عمليًا فإن التثقيف على المواطَنَة قرار تنفيذي ويرتبط بإجراءات عملية منها التدريب على قبول الاختلاف وتضمين المختلفين. من جهة أخرى فكما أن تحقيق المواطَنَة الكاملة عملية تتميّز بالصيرورة والحركة، كذلك فإن التضمين ذو طابع تراكمي وبالتالي فإنه ديناميكي وليس استاتيكيًا.

 

‌أ.       المدخل الثقافي

اختار البحث البدء بهذا المدخل عن اقتناع بأن التغيير الحقيقي والمستدام يبدأ من تغيير الأفكار النمطية والصور المسبقة عن النساء والشباب والجماعات الثقافية، وعن كل المختلفين بشكلٍ عام، وبأن محاولات التغيير من أعلى ما لم تخلق البيئة المرحبّة بها والمستعدّة لاستقبالها فإن هذا يجعل من السهل الانقلاب عليها عند أول مفترق تاريخي. وعلى سبيل التمثيل للأفكار النمطية أو ال stereotypes تلك الخاصة بأن الشباب يفتقرون بالضرورة للخبرة مقارنةً بمَن هم أكبر سنًا، أو أن السياسة حقلٌ ذكوري لا شأن للنساء به، أو أن الجماعات الثقافية ليست موضع ثقة وغير جديرة بتولّي المناصب القيادية. وبطبيعة الحال تأتي بعض النماذج العملية لتدحض هذه القوالب الفكرية تمامًا، حتى أننا نجد أن أكبر مطوّري تكنولوجيا المعلومات بدأت أسماؤهم تلمع وهم في سن مبكّرة، كما حدث مع ستيڤ چوبز أحد مؤسسي شركة أبل والذي وُلِد لأب سوري وأم أمريكية وبدأ نبوغه وهو في التاسعة من عمره، وتكرّر الأمر مع كلٍ من مارك زوكيربرج مؤسس شركة فيسبوك/ميتا، وبيل جيتس أحد مؤسسي شركة مايكروسوفت، وكلاهما بدأ نشاطه وهو في التاسعة عشرة من عمره. أو نجد أن نساءً مقتدرات مثل أنديرا غاندي في الهند ومارجريت ثاتشر في بريطانيا وإنجيلكا ميركل في ألمانيا أحدثن تغيّرات سياسية عميقة في داخل بلادهن وفي سياساتها الخارجية، هذا فضلًا عن مالالا يوسف زاي الباكستانية الحاصلة على جائزة نوبل والتي واجهَت بكل شجاعة ظلامية حركة طالبان وتمسكّت بحق كل فتاة في التعليم. كما نجد أن مسلمين من أصول باكستانية كمثل حمزة يوسف الوزير الأول في اسكتلندا أو صادق خان عمدة لندن أو أودري أزولاي اليهودية المغربية مديرة اليونسكو، تصرّفوا عند تولّيهم مناصبهم كمسؤولين وليس كممثلين لجماعاتهم الأوليّة primordial groups . هكذا تأتي هذه النماذج إذن لتبيّن لنا خطأ التصورات النمطية والأفكار المسبقة عن الشباب والنساء والجماعات الثقافية، لكن عادةً ما يكون الردّ الجاهز من رافضي التعددية هو أن تلك النماذج لا تعدو كونها مجرد استثناءات.

 

·       وفي مجال استعراض بعض نماذج الأثر الثقافي المعوّق لإنصاف وتضمين النساء والفتيات في المجتمع، تستعرض لنا كلُّ من الباحثتين إيزابيل لامبريخت كريستي مارت Isabel Lambreht& Kristi Mahret كيف أسهمَت عدة عوامل منها المعتقدات والتقاليد المتوارثة في تكريس الصور النمطية الرائجة عن النساء في إقليم خالتون Khalton بطاجكستان إحدى جمهوريات وسط آسيا المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي. وهذا الأمر إن دلّ على شيء فإنما يدّل على أن أكثر من سبعين عامًا من الحكم الشيوعي للبلاد لم ينجح في تغيير الثقافة البطريركية التقليدية للمجتمع الطاجيكي. وفيما يخصّ النساء على سبيل المثال، وردَت الإشارة إلى أن النساء اللائي يمثّلن نسبة معتبرة من العاملين في القطاع الزراعي، لا يلعبن دورًا يُذكَر في اتخاذ القرارات المتعلّقة بهذا النشاط. وعلى الرغم من أن الرجال يعدّون أوفر حظًا في هذا الأمر، إلا أنه في ظل الهيراركية المميّزة للثقافات التقليدية ومنها الثقافة الطاجيكية يمكن لنا تصوّر معاناة الشباب من التهميش، ولعل هذا يعّد أحد دواعي هجرتهم إلى الخارج طالما أن البيئة التي ولدوا وعاشوا فيها هي بيئة عمل طاردة.

 

وعلى المستوى الأفريقي يلفت بيان للاتحاد الأفريقي في ٣ أبريل ٢٠٢٣ النظر إلى معاناة النساء والشباب الأفارقة من الفقر بسبب عوامل تتعلّق بعدم ملكية أدوات الإنتاج وصعوبة تسويق منتجاتهم، هذا صحيح، لكن كذلك بسبب عوامل ترتبط بالأنماط الثقافية السائدة، وهو الأمر الذي ينطبق على الفتيات بشكلٍ خاص في ظل عدم المساواة النوعية والافتقار إلى الحماية القانونية الكافية من العنف. وحتى على المستوى الأوروبي يقدم لنا دانيال بلانش نموذجًا لتهميش الشباب في إقليم جاليسيا المتمتّع بالحكم الذاتي والواقع في أقصى شمال غرب أسبانيا، حيث يضطّر هؤلاء الشباب إلى الاعتماد ماديًا على أسرهم بسبب ظروف البطالة، وفي الوقت نفسه فإنهم يشعرون بالاغتراب عن القيم والمعتقدات السائدة في أسرهم والتي تختلف عن عالم ما بعد الحداثة الذي ينتمون إليه والذي يهيمن عليه الشعور بعدم اليقين.

 

·       ولا تنفصل الدول العربية عن هذا السياق، بل تُعتبر الإشكاليات الثقافية من أهم التحديات التي تواجهها هذه الدول في الانتقال من التنوّع الديموغرافي الكبير الذي يمّيزها إلى تمكين التعددية التي هي في صلب مفهوم المواطَنَة. وإذا ما شئنا استعراض بعض الجهود العربية في مجال التربية على المواطَنة باعتبار أن هذه التربية- بالذات في المراحل المبكّرة من العمر-تعّد هي الأساس الأول والمبدئي لإحداث التغيير الثقافي وديمومته، نجد أن النقلة الاجتماعية الكبيرة التي شهدتها المملكة العربية السعودية منذ عدّة سنوات ولا تزال، تواكَبَت مع مساع لتغيير البيئة التربوية المنتجة للأفكار المسبقة والصور النمطية عن النساء والشباب وغير المسلمين والعالَم أجمع... إلخ، وهو الأمر الذي استدعى مراجعة شاملة، هي في جوهرها أقرب ما تكون لإعادة كتابة المقررات الدراسية لمختلَف المستويات التعليمية في المملكة، منها لعملية مراجعتها. وحول هذا المعنى ذكر فهد العتيبي في مقال له في مايو ٢٠٢٢ أن نحو مائتي ألف تعديل شامل أُدخلوا على كل المناهج الدراسية، ما جعله يصف هذه العملية بأنها أكبر عملية تصحيح للمناهج في تاريخ المملكة. لكن هذه النقلة الكبيرة تحتاج في الواقع لنفَس طويل ومثابرة بحكم الطبيعة المحافظة للمجتمع السعودي، ومركزية وضع المملكة في العالَم الإسلامي، وذلك لضمان التأسيس المتين للتغيير المطلوب.

 

ومع أن عملية تطوير المناهج الدراسية كشرط أول للتغيير الثقافي تكاد تكون عملية شاملة لمعظم دول الوطن العربي، إلا أن هناك تجربتين جديرتين بالاطلاع عليهما في هذا الخصوص، هما التجربة المغربية والتجربة التونسية. خلف هاتين التجربتين يوجد العديد من المرجعيات الحقوقية المتراكمة عبر الزمن والتي اشتغلَت على تطوير عناصر المنظومة التربوية ومضمونها، ففي المغرب لدينا وثائق صادرة عن وزارة التربية الوطنية ومن بينها الكتاب الأبيض الذي اتبّع مدخل التربية على قيم التسامح واحترام الاختلاف، كما أن لدينا وثائق أخرى أتت كثمرة لتعاون الحكومة والمجتمع المدني مع جهات دولية كما في خطة العمل الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان التي كان من أهدافها غرس وتعميق ثقافة المواطَنَة والمساواة والديمقراطية. وفي تونس لدينا تراث كبير للمعهد العربي لحقوق الإنسان الذي وضع قضية التربية على حقوق الإنسان والمواطَنة على رأس أولوياته منذ نشأ في عام ١٩٨٩، ومن خلال العديد من الدراسات- التي أشرف عليها مع شركاء في الداخل والخارج-قام المعهد بتحليل المناهج الدراسية من منظور الديمقراطية وحقوق الإنسان، والقصد هو تنقيتها من كافة أشكال ومظاهر التحيّز. كما تتميّز التجربتان المغربية والتونسية بتطوير فكرة الأندية التربوية التي هي عبارة عن أطر مدرسية تجمع بين الطلاب من سنوات دراسية مختلفة والإناث والذكور والعرب والأمازيغ والمسلمين وغير المسلمين (وهؤلاء محدودو النسبة في كلتا الدولتين) ليتعلّموا التفاعل الإيجابي وقبول الاختلاف والعمل الجماعي والتطوّع والانخراط في الشأن العام.

وفي المشرق العربي توجد تجربة مختلفة، وذلك أن عجز المقررات الدراسية اللبنانية التي تمّ وضعها عام ١٩٩٤ - أي بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب الأهلية - عن تربية اللبنانيين على المواطنية كما قال الأب يوسف نصر الأمين العام للمدارس الكاثوليكية-قام بدفع بعض المؤسسات الدينية المسيحية إلى أن تطرح من جانبها مشروعاتها التربوية الرامية إلى وضع إطار مرجعي واحد للمفاهيم وآليات التربية على المواطنية. وكان المحدّد من وراء ذلك هو الوصول إلى نموذج تعليمي واحد يُطبّق في كل أنحاء لبنان. وهكذا يظهر لنا أن وجه الاختلاف في النموذج اللبناني يكمن في قيام بعض المؤسسات غير الحكومية بأخذ زمام المبادرة التربوية لمواجهة تقصير المؤسسات الحكومية، ومع أن دور العمل الأهلي أساسي في عملية التربية على المواطنَة في مختلَف دول العالم، لما يُفترض فيها من التحرّر من القيود البيروقراطية، وقدرته على إبرام الشراكات مع نظائره في الخارج، إلا أننا في حالة لبنان نتحدّث عن حلول المؤسسات غير الحكومية محل المؤسسات الحكومية ولا نتحدث عن تكامل كلا النوعين من المؤسسات.

وقبل الانتقال للمدخل التشريعي/التنفيذي وهو المدخل الثاني من مداخل التضمين، تجدر الإشارة إلى جملة من التحديّات التي يواجهها التعليم في وطننا العربي في مسعاه لتعزيز قيم المواطَنَة وحقوق الإنسان. التحدّي الأول ينبع من المواد الإعلامية المتدفقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي- كثيفة الاستخدام وبالغة التأثير على الشباب - والتي قد تؤدي دورًا مربكًا لدور كلٍ من المدرسة والجامعة. وكمثال فإن التنمّر على النساء والمنتشر بوفرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا يتسّق مع الجهد المبذول لتطوير صورة المرأة في المناهج الدراسية. التحدّي الثاني يتعلّق بضعف التكامل بين أدوار مختلَف مؤسسات التنشئة، ومثل هذا التكامل المفقود لا يتحقق إلا عن طريق تشارُك كل تلك المؤسسات على المستويين الرسمي وغير الرسمي في وضع استراتيجية للتغيير الثقافي وتكاملها جميعًا في تنفيذها. وهذا يشمل المؤسسات المعنية بالتربية والتعليم، والثقافة، والإعلام، والدين والعمل الحزبي، والرياضة، والفن، وانتقالها من سياسة الجُزُر المنعزلة إلى سياسة الجزيرة الواحدة التي يقف عليها الجميع. ومن ذلك التكامل في تنفيذ البرنامج الوطني للتسامح في دولة الإمارات، واستلهام المبادئ التي تنطوي عليها وثيقة الأخوة الإنسانية.

التحدي الثالث مصدره الصراعات الداخلية التي ألقت بظلالها على العملية التعليمية من زاويتين، زاوية عدم الوصول إلى التعليم وما يستتبع ذلك من شيوع الأمية التي تنتعش في ظلها الخرافات والأفكار المغلوطة. وزاوية تعزيز النعرات الطائفية والتمايزات المذهبية التي تصيب المواطَنَة في مقتل. التحدي الرابع يرتبط بتزايد خصخصة التعليم وبالتالي ارتباط الخدمة التعليمية التي تتلقاها فئات معينة من المواطنين بالتوجهات الفكرية الدينية والاجتماعية لأصحاب رؤوس الأموال، هذا دون الحديث عن تأثير اختلاف نوعّي التعليم الحكومي وغير الحكومي على تحويل المجتمع إلى مجموعة من الجزر الثقافية المنعزلة. التحدّي الخامس هو مدى القدرة على الموازنة بين ضرورة الانفتاح على المستجدّات العالمية ومواكبة التطور الرقمي الهائل الذي يشهده العالم، والحاجة إلى الحفاظ على الهوية الثقافية والمنظومة القيمية لدول المنطقة.

 

‌ب.   المدخل التشريعي/التنفيذي

يحتاج المدخل الثقافي إلى إسناد تشريعي يدعمه، كما أنه يحتاج إلى بعض القرارات التنفيذية التي تهيئ البيئة المناسبة لتفعيله وتضمين كل الفئات المهمشة في إطار المواطَنة. وإذا كان تناوُل البحث للمدخل الثقافي قد بدأ بتسليط الضوء على بعض حالات تهميش النساء والشباب في آسيا وأفريقيا من الزاوية الاقتصادية، فإنه يمكن تطوير هذه الجزئية من خلال تناوُل الأبعاد السياسية للتهميش و/ أو عدم الإنصاف لهاتين الفئتين.

·       وفي هذا الخصوص تفيد بيانات هيئة الأمم المتحدة للمرأة في أول يناير عام 2023 أنه رغم زيادة التمثيل البرلماني والحكومي للمرأة بشكل عام، إلا أن نسبة رئيسات الدول (غير الملكية) بلَغَت 11,3% من إجمالي 151 دولة، وأن نسبة رئيسات الحكومات بلَغَت 9,8% من إجمالي 193 دولة، وذلك مقابل نسبتّي 5.3% و7.3% على التوالي في هذين المنصبين قبل عقد من الزمان. هذا مع العلم بأنه في كلٍ من أوربا والأمريكتين يوجد أكبر تمثيل حكومي للنساء، وعلى سبيل المثال تبلغ نسبة الوزيرات في 13 دولة من الدول الموجودة داخل القارة الأوروبية وعلى رأسها ثلاث دول هي ألبانيا وفنلندا وأسبانيا 50٪؜ فأكثر. ولا تقّل أهمية عن نسبة النساء المشاركات في الحكومة، نوعية الحقائب الوزارية التي يتّم إسنادها إليهن. وهنا تفيد بيانات هيئة الأمم المتحّدة للمرأة والاتحاد البرلماني الدولي في عام 2023 أن أعلى نسب من الوزيرات على مستوى العالم ارتبطَت بحقائب لها علاقة بالمرأة والجنسين 84٪؜، وشؤون الأسرة والطفل 68٪؜، والإدماج الاجتماعي والتنمية 49٪؜، وهذا تقليد قديم من حيث الربط بين المرأة والأسرة والطفل في المجال العام. وفي المقابل فإن نسبة النساء اللائي تحمّلن المسؤولية في وزارات التعليم والخارجية والصحة والاقتصاد والصناعة والتجارة والدفاع، بلغَت 30٪؜، و25٪؜، و24٪؜، و20٪؜، و14٪؜، و12٪؜ على التوالي. أما الذي لفت الانتباه في البيانات السابقة فهو أن النساء اللائي توليّن مسؤولية وزارة شؤون الشعوب الأصلية والأقليات بلغت نسبتهن 44٪؜ وهي نسبة مرتفعة بواقع 7 نساء من إجمالي 16 وزيرًا شغلوا هذه الوزارة على مستوى العالم، ومن المفهوم أن هذه الحقيبة ثقيلة وتتعامل مع قضايا مركّبة ومتقاطعة مع حقائب وزارية أخرى. أما بالنسبة للتمثيل البرلماني النسائي فلقد ارتفعَت نسبته وفق هيئة الأمم المتحدة للمرأة من 25,5% في عام 2021 إلى 26,5% في عام 2023.

وفيما يخّص الشباب وتمثيلهم على المستوى البرلماني، تفيد بيانات الاتحاد البرلماني الدولي لعام 2023 أنه ما من برلمان في العالم حقق النسبة التي كان يرجوها الاتحاد لتمثيل الشباب في سن 30 فأقل وهي نسبة 15٪؜. لكن 9,3%من غُرف برلمانات العالم حققت نسبة 35٪؜ المطلوبة لتمثيل الشباب في سن 40 فأقل. كما أن 21,6% من غُرف برلمانات العالم حققَت نسبة 45٪؜ المطلوبة لتمثيل الشباب في سن 45 فأقل. ومؤّدي هذا أن هناك علاقة طردية بين السن ونسبة التمثيل السياسي، فإذا انخفض السن قلّ هذا التمثيل، وإذا ارتفع السّن زاد التمثيل، مع الإقرار بتحسّن نسب تمثيل الشباب في هذه الفئات العُمرية الثلاث، ومع العلم بأن أفضل تمثيل برلماني للشباب في سن 30 عامًا فأقل تحقّق في برلمان النرويج ذي الغرفة الواحدة بواقع13,6% من إجمالي الأعضاء، يليه بفارق بسيط برلمان أرمينيا بنسبة 13,1%؜، ثم برلمان سان مارينو بنسبة 11,7%.

وتعكس البيانات المشار إليها -رغم التحسّن النسبي فيها عند مقارنتها بنظيراتها في الأعوام السابقة- محدودية النتائج العملية للاهتمام الدولي واسع النطاق بتضمين النساء والشباب في المجال السياسي، وهو الاهتمام الذي يظهر في الاستراتيجيات والبرامج والقرارات والآليات التي تستهدف هاتين الفئتين بالتحديد، ليس فقط بمزيد من إشراكهما معًا في الخطط الوطنية للتنمية، لكن حتى بإشراكهما في جهود الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، ومن ذلك القرار المهم رقم 2250 الذي اتخذه مجلس الأمن في عام 2015 والمخصّص لإشراك الشباب (من الجنسين بالطبع) في تعزيز جهود السلام ومحاربة التطرّف. ومع أن موضوعات السلم والأمن وحقوق الإنسان واللامساواة بكل أبعادها احتلّت المراكز رقم 1 و3 و6 على قائمة اهتمامات عينة من شباب العالم تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا ويتوّزعون على 30 دولة من دول العالم وفق المؤشر العالمي للشباب في عام 2022. وعلى الرغم من أن القضايا موضع الاهتمام تقتضي بطبيعتها الاشتباك السياسي للشباب معها وانخراطهم في الأطر التنفيذية والتشريعية في بلدانهم، إلا أنه مازالت هناك فجوة لم يتم تجسيرها تتعلّق بالتضمين السياسي للشباب (برجاله ونسائه). هذه الفجوة هي محصلّة النظرة الدونية للشباب من جهة، وعزوف الشباب عن الأشكال والأطر التقليدية للعمل السياسي من جهة أخرى.

·       وعلى مستوى الوطن العربي، يتّضح أن هناك تزايدًا نسبيًا في الاهتمام بالتضمين السياسي للنساء والشباب والجماعات الثقافية، وذلك نتيجة الجهود الرسمية وغير الرسمية المبذولة في الاهتمام بقضية المواطَنة، وإن كانت الفجوة النوعية والعُمرية والثقافية أكثر اتساعًا من تلك الموجودة على المستوى الدولي بسبب قوة العوامل التقليدية، وبطء عملية الإصلاح السياسي. ووفقًا لبيانات هيئة الأمم المتحدة للمرأة والاتحاد البرلماني الدولي في عام 2023 احتلّت تونس المرتبة الأولى في التمثيل النسائي الحكومي بواقع 33,3% علمًا بأن تونس هي أول دولة عربية تصل فيها المرأة لمنصب رئاسة الحكومة وهو المنصب الذي شغلته نجلاء بودن من 11 أكتوبر 2021 حتى نهاية يوليو 2023 أي لأقل من عامين. وجاءت البحرين بعد تونس بنسبة 21,7%، ثم المغرب بنسبة 21,1%، وكل من مصر وقطر بنسبة 18,8%، وتوّلت بعض الوزيرات العربيات حتى مطلع 2023 حقائب غير تقليدية كالخارجية في ليبيا، والاتصالات في العراق، والعدل والصناعة والتجارة وتنمية الصادرات في تونس، والتنمية والتخطيط الاقتصادي في مصر، والرقمنة والإحصائيات في الجزائر، والتطوير الحكومي والمستقبل في الإمارات، وهذا تطور إيجابي.

 وفيما يخصّ جهود التضمين السياسي من جانب الدول العربية، فإن من الممكن تبويبها تحت عنوانين رئيسيين. العنوان الأول هو التضمين السياسي المباشر الذي جاء من خلال مجموعة من النصوص الدستورية والقانونية التي استهدَفَت تحقيق الإنصاف لواحدة أو أكثر من الفئات الثلاث موضع البحث. وعلى سبيل المثال أخذَت مصر وفق دستور 2014 وتعديلاته التي تمّت في 2019 بنظام الكوتا (أو التمييز الإيجابي) لصالح المرأة بنسبة 25٪؜ من أعضاء البرلمان كما سبق أن فعل دستور العراق من قبل في عام 2005 بعد إسقاط حكم البعث، وأخذَت مصر أيضًا بنسبة غير محدّدة لكلٍ من الشباب والمسيحيين وذوي الإعاقة والمصريين في الخارج، وهذه خطوة مباشرة على طريق الإنصاف. وأشار الدستوران المعدّلان لكلٍ من المغرب وتونس في عامّي 2011 و2022على التوالي إلى سعي الدولة لتحقيق المناصفة بين الرجال والنساء، وهذا هدف طموح. و نصّ دستور المغرب على توسيع وتعميم مشاركة الشباب في التنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للدولة. وفي الجزائر صدر قانون انتخابي جديد عام 2021 يشترط ألا تقّل نسبة الشباب دون الخامسة والثلاثين عامًا عن ثلث الأسماء المدرجة على القائمة الانتخابية، كما اشترط في كل قائمة انتخابية المناصفة بين المرشحين من الرجال والنساء، وإن كان تطبيق نظام القائمة المفتوحة الذي يجيز للناخب الاختيار من بين الأسماء المدرجة على القائمة لم يضمن تحقيق تلك النسب.

العنوان الثاني هو التضمين السياسي غير المباشر، بمعنى تهيئة الظروف في مجال العمل وفي نطاق الأسرة وداخل المجتمع بشكل عام- بما يوسّع من فرص المشاركة السياسية. وهكذا فإنه فيما يخّص بيئة العمل نصّ قانون الخدمة المدنية رقم 9 لعام 2020 في الأردن على أن هذه الخدمة المدنية تقوم على مبادئ سيادة القانون والشفافية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، سواء في داخل المؤسسة أو في الإعلان عن برامج التدريب. وحظر القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية في الجزائر لعام 2006 ورقمه (03-06) التمييز بين الموظفين بسبب آرائهم أو جنسهم أو ظروفهم الشخصية أو الاجتماعية. وهو نفس ما ذهب إليه قانون الخدمة المدنية رقم 81 لعام 2016 في مصر مضيفًا عدم جواز التمييز بين المواطنين بسبب الدين. واتصالًا بذلك توسّع العديد من الدول العربية في إنشاء وحدات لتكافؤ الفرص في داخل المؤسسات المختلفة للتيقّن من انتفاء التمييز.

وتعزيزًا للحق في حرية ممارسة الشعائر الدينية كحق أصيل من حقوق المواطَنة المنصوص عليها في معظم الدساتير العربية، صدر القانون رقم 80 لعام 2016 المنظّم لبناء وترميم الكنائس في مصر وتوفيق أوضاعها، وهو ما ساهم في رفع بعض القيود البيروقراطية التاريخية عن إقامة دور العبادة المسيحية. وفيما يخص الأمان الشخصي من جهة، والعلاقات الأُسرية المنصفة من جهة أخرى، نجد أولًا صدور القوانين التي تغلّظ العقوبة على العنف، سواء كان العنف المقصود هنا هو العنف الأسري الذي يشمل المرأة وكل أفراد الأسرة كما في السعودية والإمارات والكويت والبحرين ولبنان، أو كان المقصود هو العنف ضد المرأة تحديدًا داخل الأسرة وخارجها (في العمل والأماكن العامة ووسائل النقل... إلخ) كما في تونس ومصر والجزائر. وأُتبع هذا التطوّر التشريعي بإنشاء وحدات لرصد العنف ضد المرأة داخل المؤسسات العامة، وإطلاق الحملات الإلكترونية لتشجيع النساء على شكوى ممارسي العنف، كما هو الحال في مصر. ونجد ثانيًا اتجاه بعض التشريعات العربية لتطوير منظومة الأحوال الشخصية، وهذا التطوير شهدته كلُ من سوريا والامارات، هذا مع العلم بأن الإمارات وضعَت قانونًا للأحوال الشخصية لغير المسلمين يحقق المساواة التامة بين الرجل والمرأة. أما مشروع قانون الأحوال الشخصية في مصر ومدوّنة الأسرة في المغرب فلم يصدرا بعد، وإن تكن المدوّنة المغربية أكثر راديكالية بكثير من المشروع المصري في عددٍ من القضايا شديدة الحساسية أبرزها تقييد تعدّد الزوجات والمساواة في الميراث.

وقبل الانتقال للمدخل الثالث والأخير للتضمين، وهو المدخل التدريبي، تجدر بنا الإشارة لاثنين من التحدّيات التي يواجهها التضمين السياسي للفئات الثلاث موضع البحث. أول وأهم تحدٍ يتمثّل في الفجوة القائمة بين النصوص الدستورية والواقع، فهناك نصوص رائعة داخل بعض الدساتير العربية لكنها لا تجد طريقها للتنفيذ رغم ما ترّتبه من استحقاقات واجبة الأداء. وكمثال فإن الدستور المغربي المعدّل في عام 2011 هو دستور منفتح على التنوّع الثقافي بأبعاده العربية-الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية والأفرو أندلسية والعبرية والمتوسطية، كما أنه نصّ على السعي لتحقيق التناصف بين المرأة والرجل، وعلى توسيع وتعميم مشاركة الشباب في التنمية بكل أبعادها. وذهب الدستور خطوة أبعد بإلزام الدولة باستحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، وهيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز، ومجلس استشاري للعمل الجمعوي. وعلى الرغم من صدور القوانين الخاصة بهذه المؤسسات الثلاث إلا أنها لم تعمل بعد رغم مرور 13 عامًا على التعديلات المذكورة. ونص دستور مصر في 2014 على حظر كافة أشكال وأحال للقانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض بحيث تعمل كديوان للمظالم كما هو الحال في العديد من الدول العربية ومنها المغرب نفسه. ورغم مضّي عشرة أعوام على هذا النص الدستوري، ووجود العديد من مشروعات القوانين الخاصة بالمفوضيّة، بل رغم خروج اقتراح من الحوار الوطني الذي شاركَت فيه كل أطياف المجتمع عام 2023 بتفعيل النص وتوجيه رئيس الجمهورية بالاستجابة لهذا الاقتراح، إلا أن المفوضية لم تر النور. هذه الفجوة بين النصّ والواقع تُظهر كما لو كان تطبيق الدستور يخضع لعملية انتقائية بحيث يتّم تنفيذ بعض نصوصه وتجميد البعض الآخر.

وهناك تحدٍ ثانٍ يتعلق باعتراض قطاعات واسعة من الأفراد والمؤسسات على مبدأ التمييز الإيجابي لصالح أي فئة من الفئات في المجتمع، على أساس أن المبدأ فيه إخلال بالمساواة بين المواطنين، ولذلك نجد أن قلّة من الدول العربية هي التي تلتزم بتحديد نسب معينة لتمثيل فئة أو أكثر من المواطنين، ما ينتُج عنه غياب بعض مكوّنات المجتمع عن البرلمان، ويلجئ السلطة للتدخّل واستخدام أسلوب التعيين. ومن ذلك ما حدث في آخر انتخابات تشريعية شهدتها سلطنة عمان في أكتوبر 2023، حيث لم تفز أي امرأة بمقعد داخل مجلس الشورى، وبالتالي قام رأس الدولة بتعيين 18 امرأة في مجلس الدولة أصبحت إحداهن نائبة رئيس المجلس، والمجلسان معًا يشكلان البرلمان العماني (مجلس عمان)، لكن أحد المجلسين منتخب والآخر معيّن. وفي دول أخرى لا يوجد تعيين في البرلمان، وبالتالي، فلقد غابت المرأة عن مجلس الأمة الكويتي في انتخابات 2020، وفازت امرأة واحدة في آخر انتخابات في 2023. وعلى ذلك من المهم رفع الوعي العام بأن آلية التمييز الإيجابي هي آلية مؤقتة تساعد في تمثيل مَن يتعذّر وصولهم للبرلمان عن طريق صناديق الاقتراع.


‌ج.   المدخل التدريبي 

التدريب هو عملية ليس لها سقف زمني محدّد ولا يتوقّف عند بلوغ نقطة معينة ولا هو مرتبط بسّن بحدّ ذاته فهو يبدأ من المؤسسات الأولى للتنشئة في البيت والأسرة، وينتقل إلى المؤسسات التعليمية فمؤسسات العمل والبيئة الاجتماعية بشكلٍ عام. من جهة أخرى فإن التدريب المتواصل يضمن مواجهة المستجدات التي لم تكن موجودة من قبل، أو كانت موجودة لكنها لم تؤخذ في الحسبان كتزايد ظاهرة الهجرة البشرية مثلًا. وإذا كانت الأدبيات الخاصة بالمواطَنة قد ذهبت إلى ضرورة التأكيد على ثلاثة مبادئ أساسية هي التنوع والإنصاف، والتضمين، والتي يشار إليها اختصارًا كما سبق القول بحروف DEI، فإن تفعيل المبادئ السابقة يرتبط في إطار هذا البحث بالتثقيف والتشريع والتدريب أي ت٠ت. ت. وبالتالي سيتناول الجزء التالي بعض الخبرات التدريب الدولية، وينتقل بعد ذلك لاستعراض نظيراتها العربية.

·       اهتمّت منظمة اليونسكو بإنتاج الأدّلة التدريبية التي تساعد المؤسسات التعليمية في مجال التربية على المواطَنة. وفي أحد الأدّلة الذي يحمل نفس العنوان "التدريب على المواطَنة"، قسّم الدليل مراحل التعليم ما قبل الجامعي إلى أربع مراحل أساسية وربط كلًا منها باكتساب معارف معيّنة لخلق الوعي بأهمية التعددية. المرحلة الأولى تخّص العمر من خمس إلى تسع سنوات وتستهدف التمييز بين مفهومّي التشابه والاختلاف، وأن لكلٍ ممن ينطبق عليهم أحد هذين المفهومين نفس الحقوق وتترتّب عليهم نفس المسؤوليات. والمرحلة الثانية تخّص العمر من تسع إلى اثنتي عشرة سنة و تستهدف بناء علاقة احترام مع المختلفين داخل المجتمع وحول العالم. والمرحلة الثالثة تخّص العمر من اثنتي إلى ست عشرة سنة وتستهدف التعريف بتحديات التنوّع والاختلاف والمخاطر الناجمة عن سوء إدارتهما. أما المرحلة الرابعة والأخيرة التي تمتّد من ست عشرة إلى ثمان عشرة سنة فتسعى لإحداث تغيير إيجابي تجاه النظرة السائدة لبعض القضايا الدولية.

وفي مجال العمل، حدّد بيت خبرة جالوب بواشنطن ثلاث متطلبات للتدريب على التنوّع والتضمين في بيئة العمل، وجاء تحديده هذه المتطلبات كنتيجة دراسته أوضاع 200 مؤسسة والاطلاع على البحوث الأكاديمية المتصّلة بنفس الموضوع. وهذه المتطلبات هي على التوالي: التعامل مع الموظفين باحترام وهو ما يقتضي بدايةً تعرّفهم على بعضهم البعض كما هم، وتشجيعهم عبر الحوار على التعبير عن خصوصياتهم الذاتية. والمتطلب الثاني هو جعْل الموظفين يكتشفون نقاط قوتهم، ويدركون أن كل موظف فيهم يضيف إلى فريق العملeach person brings to the team. والمتطلب الثالث هو الأداء الجيّد للقيادات في إدارة التنوّع داخل مؤسساتهم، وذلك بهدف بناء الثقة بينهم وبين الموظفين. وذهب جالوب إلى أن المؤشرات الجيدة على تزايد إدراك المنظمات المختلفة بأهمية التضمين وانعكاساته إيجابًا على أداء الموظفين فيها، أن وضع التضمين على رأس أولويات المنظمات قد ارتفع بنسبة 32٪؜ ما بين عامّي 2014 2017. موفي نفس الاتجاه تقريبًا قام المكتب الوطني للمراجعة National Audit Office بلندن، وهو جهاز مستقل يؤدي تقريبًا دور الجهاز المركزي للمحاسبات في عدد من الدول العربية-بوضع استراتيجية للتنوّع والتضمين لمدة أربع سنوات من عام 2021 إلى عام 2025. هذا علمًا بأن المكتب قد وضع خطة عمل للمساواة العرقية بدأ العمل بها في ديسمبر 2020، وخطة عمل أخرى للمساواة تخّص ذوي الإعاقة في أبريل 2021، وهو ما يعني تزويد الاستراتيجية بآليات عمل تنفيذية. ووفقًا للمكتب فإن أفضل مستوى من التضمين في داخل أي مؤسسة يتحقّق بتوفّر ثمانية عناصر، هي على التوالي: النظر للاختلاف كمصدر للإبداع، وتحمّل جميع الموظفين مسؤولية تحقيق المساواة داخل المؤسسة، والمناقشة المفتوحة لكل القضايا دون حساسيات، والاهتمام بردود الأفعال وتقييمها لتعديل السياسات داخل المؤسسة، واحترام الجميع، وتكوين فرق العمل بما يشمل كل عناصر التنوّع داخل المؤسسة، خلق بيئة إيجابية ومؤاتية للعمل، تقديم المكتب الوطني للمراجعة نموذجًا ناجحًا في إدارته للتنوّع. ويلفت بيت الخبرة ماكينزي الانتباه لبعض التفاصيل الصغيرة التي تسهّل عملية التضمين داخل بيئة العمل، ومن ذلك تجنّب استخدام لغة متحيّزة كما في استخدام لفظ نحن مقابل أنتم أو لفظ نحن مقابل هم، بما يحطّم الحواجز الزجاجية بين المنتمين لنفس المؤسسة. وأخْذ الخصوصيات الثقافية بعين الاعتبار عند وضع جدول عطلات العمل بما يراعي المناسبات الدينية وغير الدينية لمختلَف الموظفين، واحترام الأزياء المعبّرة عن الخصوصيات الثقافية، وتوفير أماكن للتعبّد داخل المؤسسة. وفي الوقت الذي من المطلوب فيه احترام الخصوصيات الثقافية وعدم إدانتها أو وصمها، فإن من المهم أيضًا خلق مساحات مشتركة للتفاعل بين جميع الموظفين. ومن المفهوم أن هذا كله ينبغي أن يترافق مع معايير الحوكمة والشفافية عند التوظيف والترّقي.

·       وفيما يخّص الوطن العربي، فإن الملاحظ أن هناك تطوّرا كبيرًا في النظر للتدريب في الدول العربية باعتباره آلية أساسية من آليات إدارة التنوّع واحترام حقوق الإنسان. ومع أن هذا التدريب يستهدف العديد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية-إلا أن أكثر المؤسسات التي تحظى بالتدريب في العادة تكون هي التالية: المؤسسات التعليمية وبالذات ما قبل الجامعية منها، والمؤسسات الإعلامية وبالذات الصحف والفضائيات، ومؤسسات إنفاذ القانون كمؤسسّتي القضاء والنيابة. وذلك أن أول نوعَين من المؤسسات مسؤولان عن تشكيل الوعي وتطويره، أما النوع الثالث من المؤسسات فإنه يتعامل مع الأشخاص مقيّدي الحرية أو محّل شك في الحد الأدنى، وهذا يوفّر سببًا إضافيًا من أسباب التحيّز والتمييز. ومع أنه ما من فئة عمرية يمكن الادعاء أنها استوفت كل أنواع التدريب واستغنت عنه، إلا أن التدريب عادةً ما يستهدف الشباب بشكلٍ خاص، وهذا مفهوم لأنه يزيد من فرص تطوير القدرات والمهارات، ولأنه يأخذ بعين الاعتبار ارتفاع نسبة الشباب في التكوين الديموغرافي للمجتمعات العربية.

ومن نماذج جهود التدريب العربية، نموذج مصر كأكبر دولة عربية من حيث عدد السكان وتمثّل شريحة الشباب فيها قرابة ٦٠٪، وبالتالي تتسّع فيها فرص التدريب ويزيد عدد المستهدفين بها. ومن بين أهم البرامج التدريبية، يوجد البرنامج الرئاسي للشباب والمؤتمرات الوطنية والعربية الأفريقية للشباب ومنتدى شباب العالم، وبرنامج القيادة التنفيذية للمرأة بالحكومة المصرية والبرنامج الوطني للقيادات النسائية وبرنامج سيدات يقدن المستقبل. وبعض هذه البرامج بحكم تكرار تنفيذه تحوّل إلى مؤسسات قائمة بذاتها، والبعض الآخر تنفذه مؤسسات رسمية وغير رسمية تتعاون فيما بينها ومع جهات إقليمية ودولية، كما أن هناك أكاديمية وطنية مختصّة حصرًا بالتدريب تم إنشاؤها في عام 2017. ويلاحظ على البرامج السابقة أنها تهدف بشكل عام إلى رفع الوعي وتنمية المهارات والقدرات بما يزيد من فرص المتدربين في التضمين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، لكن هناك برامج أخرى للتوعية بمبادئ الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وجوهرها مبدأ المواطَنة، كما أن هناك برامج مصمّمة خصيصّا للتدريب على قبول التنوّع واحترام الحق في الاختلاف والحوار بين الثقافات، ومن أهم البرامج ذات الصلة تلك التي تنفذها الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية وهي منظمة غير حكومية تضع ترسيخ قيمة المواطَنة على رأس أولوياتها. وبشكل عام فإن الاهتمام بعملية التدريب في إطار استراتيجيات وطنية تحدّد الاتجاهات الأساسية للدول هو اهتمام عابر للحدود العربية، وثمة جهد متراكم بخصوص ذلك لا سيما في دول الخليج.

تبقي الإشارة إلى تحديّين أساسييَن يواجههما المحور التدريبي على الصعيد العربي، التحدّي الأول هو وجود تحيّز مبطّن أو في اللاوعي، إن لم يتّم التعامل معه والتدريب على إزالة أسبابه، فسوف تظّل عملية التدريب ناقصة. وذلك أن خطورة التحيّز المبطّن تكمن في أن من الصعب التعرّف عليه، وبالتالي فإن مَن. يتوّلون التدريب قد يكونوا هم أنفسهم ضحية بعض الصور النمطية الشائعة والشائهة في الوقت نفسه، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه فإن من الصعب أن يتمكّن أمثال هؤلاء من التدريب على قبول التنوّع. هذا الموقف يتطلّب التدقيق في اختيار المدرّبين بالتأكيد، لكنه يحيل كذلك إلى مزيد من الاهتمام بالتنشئة في الصغر على المواطَنة، وهذا يذكّرنا بتجربة النوادي المدرسية والحاجة إلى تعميمها. التحدي الثاني ينبع من الشكوك التي تحيط أحيانًا بمنظمات المجتمع المدني كمنظمات لها أجنداتها المرتبطة بالخارج، بينما أن تلك المنظمات تعّد شريكًا أساسيًا في عملية التدريب، ومنافسة الدولة لها في المجال التدريبي غير مطلوبة، بل إن المطلوب هو التكامل. وبالتالي فهناك حاجة لتوفير أطر تشريعية مرنة توازن بين رفض الاختراق الخارجي وتفعيل الدور التدريبي لمنظمات المجتمع المدني.

********

يقول الإعلان العالمي بشأن التنوّع الثقافي في مادته الأولى "التنوّع الثقافي، بوصفه مصدرًا للتبادل والتجديد والإبداع، هو ضروري للجنس البشري ضرورة التنوّع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحيّة. وبهذا المعنى يكون التنوّع الثقافي هو التراث المشترك للإنسانية، وينبغي الاعتراف به والتأكيد عليه لصالح الأجيال الحالية والأجيال المقبلة".


 

 

 

 

 

 

ب- توجيه برامج التنمية (الصحة / التعليم / العمران)

3- الدكتور جوردون ساموت - مالطا

فهم برامج التنمية: نموذج PASS وفائدته في رسم الأخطاء/التفاهمات بين المجموعات

ملخص

تمثل العديد من مشاريع التنمية مبادرةً حسنة النوايا تسعى في صميم عملها إلى تحقيق نتائج إيجابية لمن يُقصد لهم أن يستفيدوا منها، لكننا نجد أيضًا – في برامج التنمية – أن متغير الثقافة يعني أيضًا أن ما يصلح للإوزة لا يصلح بالضرورة لغيرها، وتدعو هذه الورقة البحثية بين صفحاتها إلى إيلاء مزيد من الاهتمام بالقضايا ذات الصلة بالترجمات الثقافية حتى نتجنب أن نتعرض لسوء فهمٍ لنوايا غيرنا نتيجة لحالة الانقسام الثقافي. كما تقدم الورقة البحثية أيضًا نتائج البحث الذي تم إجراؤه مع المجتمعات المالطية والعربية التي تعيش في مالطا، وفي حين أن عينة المشاركين في هذا البحث من المالطيين والعرب على حدٍ سواء يفضلون في العادة والإدماج فيما بين المجموعتين، إلا أن وراء ذلك العديد من الأسباب المختلفة. ونوضح من خلال هذا البحث كيف أن ذلك كيف يمكن لهذا أن يؤدي إلى سوء تفسير لما يقوله فئة من المالطيين، وهو ما قد يلقي بظلاله على الروابط والعلاقات الإيجابية بين المجموعتين. ولتجنب حدوث ذلك، نطرح من خلال هذا البحث نموذجنا الذي يحمل اسم PASS حول المشاركة بين المجموعات المختلفة؛ حيث يعتمد هذا النموذج في طريقة عمله على (أ) دراسة المشاريع (ب) الحجج البيئية التي تدعمها في البيئات التطبيقية، (ج) توسيع نطاق التفضيلات المتنوعة للعمل (د) مسح توزيعات الرأي في هذا الصدد. ويكشف تجانس البيانات لكلا المجموعتين عن تقارب الحجج والاختلافات التي نعتبرها أساسية لضمان ترجمة المعاني والنوايا كما ينبغي عبر حالة الانقسام بين الثقافات.

 

مقدمة

تهتم العلوم الاجتماعية بتطبيق الأساليب العلمية على الظواهر الاجتماعية نحو فهم الأحداث التي تدور في المجال الاجتماعي بما يتجاوز ما تراه العين المجردة، وتهدف الجهود العلمية إلى إزاحة القشور عن طبقات التفسير للأحداث الاجتماعية التي تكشف بدورها عن العمليات الطبيعية الخفية المحَدِّدَة للنتائج التي يمكن ملاحظتها، ويتم الكشف عن هذه العمليات الطبيعية في عملية التحقيق التحليلي ويمكن للمرء أن يستشهد بالرؤى المختلفة التي قدمتها العلوم الاجتماعية على مر السنين نتيجة لمثل هذا النشاط مثل تسعير السوق من حيث العرض والطلب، ودور الاستدلال والتحيزات في الإدراك البشري، وتأثير الثقافة على السلوك البشري، على سبيل المثال لا الحصر. كما تهتم العلوم الاجتماعية بقضايا السلام والصراع وأسباب وعواقب هذا النوع من النشاط البشري. أود من خلال هذه الورقة أن أقيم بعض الأفكار الرئيسية نحو صياغة طموح تصالحي يمكن أن يرشدنا عند مواجهة الانقسامات التي تحدث على المستوى الدولية وبين الثقافات.

 

مأساة المشاعات

تعتبر مأساة المشاعات (هاردين 1968) من الأمثلة المعروفة في العلوم الاجتماعية التي اقترحها ويليام فورستر لويد عام 1833؛ حيث يروي هذا المثل قصة مجموعة من رعاة الماشية الذين كانوا يتركون أبقارهم ترعى في أرض مشتركة كانت كبيرة بما يكفي لاستيعاب جميع الأبقار، وظل هذا الوضع الطبيعي مستقرًا لفترة من الوقت وكان كل شيء على ما يرام بين رعاة الأبقار في القرية حتى جاء يوم قرر فيه أحدهم أنه قد يكون من الجيد إضافة بقرة إضافية إلى قطيعه، أو السماح لقطيعه بالرعي في هذه الأرض لوقت أطول قليلاً من الرعاة الآخرين. نتيجة لذلك، أصبحت أبقار الراعي الريادي أكثر بدانة وحققت أسعارًا أعلى عند بيعها في السوق، أو كان لديه المزيد من الأبقار للبيع مقارنة بزملائه. بهذه الطريقة، زاد الراعي الافتراضي أرباحه، وهو ما يعتبره الكثيرون أمرًا جيدًا، وهو ما يعني أنه أصبح قادرًا على توفير رعاية صحية أفضل لعائلته، وتوفير تعليم أفضل لأبنائه، وما إلى ذلك. كلها أمور جيدة من وجهة نظر الراعي الريادي. ولكن، وجهة نظر الراعي الريادي ليست هي وجهة النظر الوحيدة في هذا الموقف؛ فهنا، جاءت الأرباح التي حققها البعض على حساب خسائر لحقت بالآخرين، خاصةً وأنه بدا على أبقارهم إما النحافة والضعف وعدم الإقبال عليها عند بيعها في السوق مقارنة بالمنافس الآخر، أو أنهم لم يكن لديهم العدد الكافي من الأبقار الذي يسمح لهم بأن يوفروا الرعاية الصحية والتعليم الجيد لعائلاتهم. هذا بالطبع هو السبب الرئيسي في أن تكون فكرة المشاع مأساة، خاصة وأنها ليست إلا لعبة محصلتها النهائية تساوي صفر كما تعتبر الخسائر التي يتحملها البعض فيها مكاسب لآخرين والعكس صحيح. في اللحظة التي أدرك فيها الرعاة الآخرون أنه يمكنهم تحقيق مزيد من الأرباح من خلال السماح لأبقارهم بالرعي لفترة أطول في هذا المرعى أو من خلال زيادة عدد الأبقار في قطعانهم الخاصة، قاموا بذلك، حتى وصلوا إلى النقطة التي لم يعد فيها الرعي في الأراضي المشتركة (المشاع) مستدامًا، وانهارت بعد ذلك صناعة الرعي لأنه لم تحصل أبقار أحد من الرعاة على المرعى الذي كانوا بحاجة إليه - لقد أصبح هناك الآن عددٌ كبيرٌ جدًا من الأبقار. بعبارة أخرى، فإن توافر مورد مشترك كان في وقت ما كبيرًا بما يكفي لاستيعاب العديد من الرعاة أدى بالضرورة إلى سقوطهم نتيجة لخصال الأنانية التي تتسم بها الطبيعة البشرية. إن كارثة الأراضي المشتركة (المشاع) تكشف أيضًا أن ما يبدو منطقيًا لأحدهم قد لا يبدو كذلك للجميع.

ويمثل كوكبنا الأرض أكثر الأمثلة وضوحًا على المشاعات التي يمكن أن تخطر على بالنا يومًا. قد يأتي يومٌ تعتبر فيه البشرية المجرات الأخرى، أو ربما الكون بأسره، أراضي مشتركة (مشاعات) مستهلكة ويمكن التخلي عنها، ولكننا لم نصل إلى ذلك الحد بعد، إلا أن نجد البشر قد انتشروا الآن عبر العالم بأسره وسكنوا الكرة الأرضية من مختلف أركانها؛ فنجد تجمعات بشرية في المناطق الباردة في القطبين المتجمدين شمالًا وجنوبًا، فضلاً عن وجود تكتلات بشرية المناطق ذات المناخ المعتدل والاستوائي، وهذا بالطبع ليس بالأمر التافه أو الهين، فإذا قمت مثلًا برحلة بحرية إلى ألاسكا، ستحتاج إلى ارتداء ملابس مختلفة عما ترتديه اليوم إذا ما أردت الاستمتاع بالمناظر الخلابة من على سطح السفينة على سبيل المثال. ويشكل ارتداء الملابس في الأساس أحد الطُرُق التي يتكيَّف بها البشر مع التغيرات الجوية المحيطة؛ حيث نقوم بتغيير ملابسنا لحماية أنفسنا من موجات البرد القارس وأيضًا لنحتمي من درجات الحرارة وأشعة الشمس الحارقة، وقد لا تحتاج إلى حماية جلدك أو جسدك من عناصر الطقس على الإطلاق في بعض المناطق. لذلك، فإن أحد الطرق التي يتكيَّف بها البشر بشكل أفضل من الأنواع الأخرى من الكائنات مع البيئة التي يجدون أنفسهم فيها هو عن طريق تغيير أنفسهم أو تغيير شيء له علاقة بهم؛ فلا داعي للقلق مثلًا بشأن تعرضك للهجوم من قِبل دب قطبي في مصر، فلا يوجد أي احتمال لأن دبًا قطبيًا قد ضل طريقه وصولًا إلى القاهرة في مغامرة ما طموحة، فمعظم أنواع الكائنات وأصنافها المختلفة، مثل الدببة القطبية، لا يمكنها تعديل طبيعتها لتكييف أنفسها مع الظروف البيئية المختلفة.

أما بالنسبة للجنس البشري أو البشر بشكل عام، لا يعتبر تغيير الذات لتلبية متطلبات البيئة الاقتراح الوحيد للتكيُّف، لأن البشر يتكيَّفون أيضًا مع البيئة بتعديل البيئة نفسها لتتناسب معهم، بدلاً من تكييف أنفسهم مع البيئة؛ حيث أننا مثلًا نبني منازل ومجمعات سكنية توفر لنا شكلًا أفضل وأكبر من المأوى مقارنة بأوراق الأشجار على سبيل المثال؛ كما اننا نقوم بصناعة السيارات وبناء الطرق السريعة حتى نتمكن من التنقل بسرعة أكبر مما يمكن أن يحدث ذلك إذا ما اعتمدنا على أقدامنا؛ كما نزرع المحاصيل ونربي الحيوانات للحصول على الغذاء الذي نحتاجه حتى إذا كان هذا ليس متوفرًا بشكل طبيعي. بهذه الطريقة، يتوفر لنا الفرصة في أن نبقى على قيد الحياة في كل مكان نتجول فيه. وأرجو أن تتخيلوا معي مكالمة تجري عبر منصة زووم بين ثلاثة أشخاص أحدهما مصري والثاني مالطي والثالث نرويجي، وجميعهم موجودين في ذلك الوقت في بلدانهم الأصلية. في ذلك الوقت، قد يكونون جميعًا مرتاحين تمامًا خلف مكاتبهم، يناقشون فوائد نظرية علمية حول أي موضوع، ولكن قد يحتاج الشخص المصري إلى تبريد بيئته المحيطة التي يجلس فيها أثناء المكالمة عن طريق الجلوس في مكتب مكيف بالهواء ليكون مرتاحًا بما يكفي للجلوس في مكالمة زووم، بينما قد يحتاج الشخص النرويجي، من ناحية أخرى، إلى تدفئة مكتبه بدلاً من تبريده ليكون مرتاحًا بشكل مماثل، في حين قد يكتفي المالطي بمجرد فتح نافذة ما في الغرفة نفسها. هذه هي المفارقة الهامة التي أود أن أوضحها: في كل مكان يتجول فيه البشر، يكون لديهم نفس الاحتياجات تمامًا، ولكن أينما كانوا، ستكون احتياجاتهم مختلفة عن تلك التي لدى الآخرين ممن يشبهونهم. بعبارة أخرى، سيحتاج الأفراد، سواء في مصر أو في النرويج، إلى تنظيم درجة حرارة مساكنهم لجعلها صالحة للسكن بما يكفي لتحقيق الإنتاجية، ولكن يجب على المصريين أن يفعلوا ذلك بطرق مختلفة عن النرويجيين؛ حيث لا يُمكن أبدًا تركيب أنظمة التدفئة المركزية التي يتم تركيبها في النرويج في المنازل المصرية، أو تركيب وحدات التبريد المصرية في المنازل النرويجية، لأن ذلك لن يكون بالأمر المنطقي.

 

قضية الثقافة

قد تكون البشرية نوعًا واحدًا أو فصيلًا واحدًا، إلا أن البشر قد يختلفون في الحجم أو الشكل، فنحن نختلف عن بعضنا البعض بشكل طبيعي في العديد من الطرق؛ فبعضنا ذكور وبعضنا إناث، بعضنا شيوخ وبعضنا شبان، بعضنا بدينون وبعضنا نحيفون، وهكذا. ليس هذا فقط نوع الاختلاف فيما بيننا؛ فبعضنا قادرون على القفز أعلى من البعض الآخر، والجري بسرعة أكبر من الآخرين، والغناء بشكل أفضل من الآخرين، وهكذا، وهو ما نطلق عليه في علم النفس الاختلافات الفردية، كما أنه من الطبيعي أن يكون هناك بعض الأشخاص الذين يتفوقون في الحياة نتيجة لكونهم موهوبين بشكل أفضل في هذه الجوانب أو في جوانب أخرى؛ فعلى سبيل المثال، لا يمكن للجميع مثلًا أن يلعب كرة القدم بنفس المهارة التي يلعب بها "مو صلاح"، كما أن معظم اللاعبين الذين يمكنهم لعب كرة القدم بمهارة مثل محمد صلاح، من المحتمل أن ينتهي بهم المطاف باللعب لصالح أندية كبيرة في دوريات كبرى، وبالتالي تحقيق أموال كبيرة، أما البقية، فسوف يتعين عليهم التكيف بشكل أو بآخر. ليس هذا هو السياق أو المحيط الذي تكمن فيه جميع اختلافاتنا بالطبع؛ حيث إننا نختلف أيضًا عن بعضنا في الجوانب الثقافية؛ فبعضنا سيتناول عشاءه هذا المساء باستخدام كلتا يديه فقط، بينما سيستخدم البعض الآخر أدوات طعام أو أدوات المائدة المعروفة للتحكم في ما يأكله من لقيمات، وسيستخدم آخرون العيدان الصغيرة لتناول طعامهم. هنا أيضًا لا تكمن كل أوجه الاختلاف؛ فبعضنا سيشعر أنه لم يتناول وجبة جيدة بالقدر الكافي بالنسبة له إذا لم تتضمن تلك الوجبة بعض الأرز على سبيل المثال، وقد يشعر البعض الآخر أن شيئًا ما ناقصًا إذا لم تتضمن وجبته قليلًا من الخبز، وقد يشكو آخرون أن الطعم كان حارًا جدًا، أو سيئًا جدًا، بغض النظر عما تم تقديمه لهم. تُمَيِزنا العادات والتقاليد والممارسات الثقافية، التي نتعلمها نتيجة للمجتمع الذي نولد فيه، عن بعضنا البعض بطرق تفوق السمات الطبيعية؛ فعندما نولد، نكون جميعًا قادرين على تعلم أي لغة، لكن بعضنا ينشأ وهو يتحدث اللغة الصينية المندرينية، وبعضنا الآخر يتحدث الإنجليزية، وآخرون يتحدثون الفارسية، أو المالطية، أو أي لغة أخرى يتحدثها البشر في مكان ما اليوم. تساعد الثقافات التي نعيش فيها في توجيه قدراتنا الطبيعية؛ ومالم نتواصل مع البشر الآخرين، لن يتعلم الأفراد أي لغة على الإطلاق. فعندما يولد الشخص في مجتمع ما، سيكتسب لغته الأم بدون الحاجة إلى تعليم رسمي لذلك. هذا هو الإمكان والقدرة التي يمتلكها العقل البشري ويتمتع بها. عندما يصل الأطفال إلى سن المدرسة، غالبًا ما يكونون قد اكتسبوا القدرات الأساسية مثل التحدث والأكل واللعب دون أن يتعلموا ذلك رسميًا. تخيل بعد ذلك كيف تتفاعل هذه الخصائص المتغيرة عبر الأجناس بمجرد بدء التعلم للعديد من المهارات من خلال التعليم الرسمي أو النظامي. على سبيل المثال، ينشأ الأطفال في النرويج بهذه الطريقة ليتحدثوا النرويجية ويفهموا مزايا أنظمة التدفئة المركزية والمرايا ذات الزجاج الثلاثي، بينما ينشأ الأطفال المصريون، على النقيض من ذلك، ليتحدثوا العربية ويقوموا بتركيب وإصلاح وحدات تكييف الهواء.

تغذي الثقافات التي نعيش فيها طموحاتنا الإنسانية. في ظاهر الأمر، يبدو أننا جميعًا نطمح إلى الأمور نفسها؛ فنحن جميعًا نتطلع لننشأ ونحصل على وظائف محترمة وجيدة الأجر، ونرغب جميعًا في العيش في عائلات سعيدة، ونرغب في رؤية والدينا يعيشون طويلاً وأطفالنا ينجحون في مجالاتهم، ونرغب جميعًا في الحصول على رعاية صحية ذات جودة جيدة لأنفسنا وعائلاتنا، ونريد أفضل تعليم لأطفالنا، ونريد العيش في سلام، ونريد أصدقاء لنشاركهم لحظاتنا الخاصة، وعندما نموت نريد أن يتذكرنا أحباؤنا ويكونوا ممتنين للخير الذي قدمناه لهم، ولكن كل طموح من الطموحات هذه يتأثر بالثقافات التي نعيش فيها. لا أقصد هنا أن ما قد يعتبَر تعليمًا جيدًا بالنسبة إلى ثقافة واحدة قد يكون تلقينًا للأفكار الثابتة بالنسبة إلى ثقافة أخرى، أو أن ما يشكل عائلة في ثقافة واحدة قد لا يكون مقبولًا في أخرى، على الرغم من أن هذه القضايا إنسانية أيضًا، ولكن حتى إذا اتفقنا على بعض الافتراضات الأساسية، مثل القضاء على الفقر، أو الصراعات المسلحة، أو الإيدز، فإنه لا يزال هناك مخاوف ثقافية حرجة يجب التعامل معها على خطى البيئات المتغيرة التي نعيش فيها وما يلزم لتحقيق طموحاتنا في مكان ما مقارنة بآخر.

لنأخذ مثالًا بسيطًا لتوضيح هذه النقطة؛ كل مزارعي الطماطم في جميع أنحاء العالم ممن سبق لهم أن قاموا ببذر بذور الطماطم وزرعها في وعاء صغير حتى تبرز، يتمنون أن يشاهدوا عملية نمو الطماطم منذ بدايتها وحتى تنضج الثمار. السؤال هنا، ما الذي يلزم لكي تنمو الطماطم في بلد ما بالمقارنة مع بلد آخر؟ في بعض البلدان، قد تنمو الطماطم بشكل طبيعي في الحياة البرية ودون تدخل بشري، وقد يتمكن المزارعون في بلدان أخرى من زراعة البذور في أصيص بسيط أو وعاء يتركونه في الهواء الطلق، وفي بعض البلدان الأخرى قد نضطر إلى بناء بيت زجاجي (دفيئة) ونسقي النباتات طوال دورة حياتها بأنفسنا؛ أي أن ما يلزم لكي ينضج الثمر في النبات، في الأساس، يعتمد على الظروف البيئية المتغيرة.

هنا أود أن أجادل بأن الأمر نفسه ينطبق على طموحات الإنسان وتطلعاتنا البشرية؛ حيث إن ما يلزم لتربية أسرة في النرويج يختلف كثيرًا عما يلزم للقيام بالشيء نفسه في مصر، كما يختلف عن أي مكان آخر نرغب في النظر إليه. في جوهر الأمر، يمكننا البدء بالاتفاق على نتيجة مرغوب فيها، ولكن ما يتطلب لتحقيق تلك النتيجة يعتمد على عوامل أخرى متنوعة تنبع من البيئة التي نتعامل معها، بما في ذلك ملامحها الثقافية. لن يكون من المفيد نقل طرق زراعة الطماطم في النيل أو طرق تخزينها ونقلها ووضعها في البراميل المناسبة لها إلى النرويج، كما لن يكون من المفيد نقل طرق زراعة أشجار الصنوبر النرويجية إلى مصر، ففي كلتا الحالتين، هناك قيود بيئية مختلفة تمامًا عن بعضها البعض يجب معالجتها لكي تتمكن النباتات من أي نوع من الازدهار. ينطبق الأمر نفسه على مسألة تعليم الأطفال، أو مسألة تقليل انبعاثات الكربون، وتخفيف الازدحام المروري، أو أي حالة اجتماعية أخرى نطمح لتحقيقها لأنفسنا وأطفالنا على حدٍّ سواء؛ حيث أن الدرس الوحيد الذي نتعلمه من نقل الطرق الزراعية والتبديل بين أساليبها بشكل ثابت عبر مجالات بيئية متنوعة هو أنها جميعها لا تعمل، كما أود أن أجادل بأنه يجب علينا استخلاص دروس مماثلة بالنسبة لكيفية توجيه برامج الصحة والتعليم والتنمية الحضرية.

مشكلة الآخر

ولعل الحقيقة التي تفيد بأن التدخلات الاجتماعية يجب أن تتناسب مع الظروف المحلية، لا تتضح في مكان أفضل من فعالية حملات الصحة العامة للتوعية بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز). وتشير الدراسات مثل دراسة جوف (1995) في المملكة المتحدة ودراسة سكوفدال وآخرين (2022) في زيمبابوي إلى أنه بغض النظر عن المكان الذي يتم فيه تنفيذ حملات الصحة العامة، فإن تلك الحملات تحتاج إلى مراعاة طبيعة المعتقدات والممارسات الثقافية المحلية إذا كان لها أن تحقق أي نجاح في الوقاية أو العلاج، وإذا ما فعلت تلك الحملات الصحية ذلك الأمر في وقت ما وافترضت أن ما هو يصلح للبعض يصلح للجميع، فإنها تكون بذلك قد حكمت على نفسها بالفشل نتيجة لظروف غير مقصودة. الدراسة التي أجراها جوف، على سبيل المثال، أظهرت كيف يساء فهم الرجال المثليين في المملكة المتحدة لطبيعة فيروس نقص المناعة البشرية وانتقاله، مما أدى إلى ممارسات جنسية غير آمنة ومضرة بشكل غير ضروري. بالمثل، أظهرت الدراسة التي أجراها سكوفدال وآخرون (2022) كيف أن الأوضاع الثقافية والقيم الأخلاقية في زيمبابوي تعتبر عائقًا أمام نجاح برامج الوقاية بين الفتيات المراهقات. لنُعيد التأكيد، لا يمكنك إقناع الفتيات المراهقات في زيمبابوي بالمشاركة في ممارسات جنسية آمنة على أساس المعرفة بالحياة الجنسية للمراهقين في المملكة المتحدة بنفس الطريقة التي تقوم بذلك بها في المملكة المتحدة. بدلاً من تصدير برامج التنمية إلى البلدان النامية استنادًا إلى الخدمات المصممة في البلدان المتقدمة، نحتاج إلى جهد واضح وواضح لفهم الظروف الثقافية المحلية لكي نتمكن من تصميم البرامج التنموية وفقًا لذلك.

قد يكون هذا أسهل قولًا من فعله. مرة أخرى، إن ما يقف في طريق هذه الاستراتيجية هو الطبيعة البشرية. لقد وثق علماء العلوم الاجتماعية منذ فترة طويلة مجموعة من التحيزات الإدراكية التي تؤدي إلى تقييم مختلف عبر الانقسامات بين الجماعات. على سبيل المثال، يدعي روس ووارد (1996) أن البشر معرضون لانحياز الواقعية الساذجة؛ وهذا يعني أنهم يعتبرون آرائهم الخاصة سليمة وصحيحة، ويعتبرون آراء الآخرين المتضاربة بالضرورة متحيزة وخاطئة، بدلاً من كونها مستنيرة بطريقة ما، ويقوم الأفراد بتفسير أن آراءهم الخاصة صحيحة وسليمة نظرًا لتجاربهم الخاصة، وأنه إذا كان لدى الآخرين نفس التجارب، فسيقومون في الأساس بالتفكير مثلهم والاتفاق معهم بأن وجهة نظرهم صحيحة، وإذا لم يفعلوا ذلك، فهذا يعني أن تفكيرهم خاطئ بطريقة ما ويؤدي إلى استنتاجات خاطئة. بالمثل، يُفيد ساموت وسرطاوي (2012) بأن الأفراد يُعزون الجهل إلى وجهات النظر الأخرى التي لا تتوافق مع آراءهم أو وجهات نظرهم. وبهذه الطريقة، لا يحتاجون إلى التفكير في إمكانية الخطأ في قناعاتهم الخاصة. هناك فائدة تكيفية واضحة في استنتاجاتنا الخاطئة حول آراء الآخرين ووجهات نظرهم المتضاربة، وهي أنها تسهم في تعزيز التماسك داخل المجموعة حول قضية المجموعة من خلال رفض أو استبعاد الآراء المعارضة، وهذا يمكّن مشروع المجموعة من مواجهة الانتقادات والصمود أمام المعارضة الخارجية. هذا يعني أيضًا أنه عندما نحاول تركيب أوتاد مربعة في فتحات مستديرة، أي تنسيق ما لا يتناسب، فإننا لا ندرك حتى أننا نقوم بذلك، وهذا أمر خطير بالنسبة للعلاقات بين الفئات لأنه يضعنا على مسار تصادمي بين الصواب والخطأ، بدلاً من أن يضعنا على مسار تعاوني يوفر حلولًا مخصصة للمشاكل المحلية. وفي الحالات المتطرفة، تؤدي هذه الانحيازات الإدراكية أو المعرفية إلى التمييز/الإيذاء حيث يقوم الأفراد ذوو المواقع الاستثنائية أو ذوو الامتيازات بتحميل الأضرار للفئات الضعيفة، مثل ادعاءات ساتوشي كانازاوا (2006) بأن الفجوة الاقتصادية في أفريقيا تتسبب فيها الذكاء المنخفض لدى سكان أفريقيا.

إشراك الآخر

تعد الدراسات التي تم النظر إليها أعلاه حيويةً في فهم مشكلة عدم التماثل الثقافي، وحيويةً في تحديد حلٍّ قابلٍ للتطبيق. إذا ما كانت عدم التفاهمات تنشأ بسبب رفض مبكر للفروق والاختلافات، فيجب أن تنشأ التفاهمات من خلال زيادة التفاعل والمشاركة. في هذه النقطة، أود أن أقدم نموذج PASS للتفاعل الثقافي والمشاركة؛ حيث تم تطوير هذا النموذج في عملية معالجة التناقضات الثقافية في تطلعات الاندماج بين مجموعات اجتماعية وعرقية مختلفة في مالطا، ونعتقد أن مثل هذا التفاعل التجريبي مع المجتمعات المحلية يجب أن يكون شرطًا أساسيًا لأي مبادرة تنموية تطمح إلى تحسين الظروف على الأرض.

نشأت المشكلة التي سعينا لمعالجتها من التفاهمات المتباينة تجاه الاندماج بين مجموعات اجتماعية وعرقية مختلفة في مالطا (Sammut & Lauri, 2017; Sammut, Buhagiar, Mifsud, DeGiovanni & Brockdorff, 2022)، واكتشفنا خلال سير استقصائنا أن الآراء السلبية كانت توجه بشكل خاص نحو المجتمع العربي، كما سعينا في دراسة لاحقة إلى فهم القلق المحدد الذي يتملك الشعب المالطي تجاه هذا المجتمع (Sammut et al., 2018)، بل إننا لم نكتفِ بذلك وأردنا أيضًا فهم ما يفكر به المجتمع العربي المحلي فيما يتعلق بآفاق الاندماج (Buhagiar & Sammut, 2023a)، واعتقدنا أن ذلك سيوفر رؤى حول سبب فشل الاندماج بسبب الاختلافات غير المتوافقة، وكانت  فرضيتنا الأولية أن الشعب المالطي يسعى لنوع مختلف من الاندماج مقارنة بالمجتمع العربي (Sammut, 2022).

أسفرت دراساتنا عن نتائج مختلفة (Buhagiar, Mifsud, Brockdorff & Sammut, 2020). قد يكون من المتوقع إلى حد ما، في ضوء النظرة الخلفية، أن الدراسات النوعية التي أجريناها مع كلتا المجتمعين كشفت عن مجموعة متنوعة من التبريرات سواء لصالح الاندماج أو ضده من كلا الجانبين، وهذا يعني أننا تمكنا من تحديد أسباب مقنعة وراء اندماج العرب بين كل من الشعب المالطي والعربي، إلا أننا ومع ذلك، وجدنا حججا معارضة للاندماج بين الجانبين، ومن الأهمية بمكان أنه حتى عندما قدم الطرفان مطالب أو ادعاءات مماثلة، فإن دعمهم المبرر كان مختلفًا وخاصًا بمجموعتهما. على سبيل المثال، الادعاء بأن "المالطيين والعرب يمكنهم أن يتعايشوا معًا بكل تأكيد في حالة من الانسجام مع الحفاظ الكامل على اختلافاتهم الثقافية والدينية" قد طرح على أفراد من المجموعتين العربية والمالطية على حدٍّ سواء، إلا أن المشاركون المالطيين تجاوبوا مع هذا الادعاء بالقول "لم نواجه مشاكل مع العرب؛ فهم يندمجون ونحن نتوافق معهم" و"العرب على ما يرام وممتعون في التعامل"، ودعم المشاركون حججهم بالإشارة إلى أن "العرب مهذبون للغاية" وأنه "على عكس الخارج، لا توجد مشاكل [بين الاثنين] هنا". أما المشاركون في هذا الادعاء من العرب، فقد برروا تأييدهم للاندماج بطريقة مختلفة؛ حيث جادلوا بأن "المالطيين طيبون ومرحِبون" وأن "الاندماج هو الخيار الوحيد" الذي يمكن أن يتيح "التعايش الودي" و"الحوار والاحترام". يمكننا أن نرى أن المشاركين من المجموعتين اتفقوا على الاندماج، ولكن لأسباب مختلفة. وبطريقة مماثلة، تم تبرير المطالبات المعادية للاندماج بشكل مختلف أيضًا عبر الانقسام بين المجموعات؛ فعلى سبيل المثال، تم برر المشاركون المالطيون في الادعاء مناهضتهم للاندماج بأن "الفروق الدينية والثقافية بين العرب والمالطيين يمكن أن تكون مشكلة" من حيث الادعاءات بـ "أن الثقافة العربية تتناقض مع الثقافة المالطية بشكل أكبر من التناقض الذي يحدث مع الثقافات الأخرى"، أما المشاركون العرب فقد برروا موقفهم الرافض للاندماج بـ "أن لدينا آراء مختلفة فيما يتعلق بالجنس".

بعد هذا التدريب النوعي المكثف، الذي شمل مقابلات مطولة مع أعضاء وأفراد من كلا المجتمعين، قمنا بتحديد قائمة تتألف من اثني عشر ادعاءً تكررت عبر كلتا المجموعتين، ولكن كانت تبرر جميعها بطرق مختلفة، ثم أخضعنا هذه القائمة لتدريب تصنيف خبراء حصلنا من خلاله على مقياس يتراوح بين المطالب المؤيدة للاندماج والمطالب المناهضة له. (الجدول 1)

م

الادعاء

1

يمكن للمالطيين والعرب أن يتعايشوا مع بعضهم البعض مع الحفاظ على اختلافاتهم الثقافية والدينية

2

سيكون من الأفضل أن يُشرك المالطيون والعرب بعضهم البعض بدلاً من عزل بعضهم البعض

3

وجود أماكن عبادة مسيحية ومسلمة جنبًا إلى جنب يسهم في جعل المجتمع قويًا وشاملًا

4

تساعدنا أوجه التشابه بين الثقافة والتراث واللغة والعقلية العربية والمالطية على التعايش

5

يجب ألا يكون هناك تمييز بين المالطيين والعرب في الحد الأدنى

6

يمكن أن يكون التواصل الثقافي بين العرب والمالطيين جيدًا في بعض النواحي

7

يمكن للاختلافات الدينية والثقافية بين العرب والمالطيين أن تكون إشكالية

8

من الأفضل للمهاجرين الحفاظ على خصوصية بعض الممارسات الثقافية

9

الثقافة العربية الإسلامية والثقافة المسيحية المالطية متناقضتين للغاية بالنسبة لنا

10

في نهاية المطاف، ستتولد لدى كل من العرب والمالطيين الرغبة في فرض طرقهم الخاصة على الآخرين

11

سيكون من الأفضل بالتأكيد أن يتجنب المالطيون والعرب التعامل مع بعضهم البعض

12

العنصرية بين المالطيين والعرب منطقية، ببساطة لا ينبغي لنا أن نختلط

الجدول 1: الآراء المتعلقة بالاندماج التي ظهرت بين المجتمعات المالطية والعربية

لقد شرعنا في تطبيق هذا المقياس على كل من المجتمعين المالطي والعربي لإجراء تحليل كمي، في محاولة لفهم مدى ميل كل مجتمع نحو أحد الاتجاهين. ومرة أخرى، بالنظر إلى الوراء، كشفت الدراسة عن النتيجة الواضحة بأن وجهات النظر المؤيدة والمعارضة للاندماج حصلت على بعض التأييد من كلا الجانبين.

وبينما نميل في الحياة اليومية غالبًا إلى تقسيم السكان حسب المعايير الديموغرافية استنادًا إلى الفروقات الأساسية (Buhagiar, Sammut, Rochira & Salvatore, 2018)، بحجة أن المالطيين يتصرفون بهذه الطريقة، والعرب يتصرفون بطريقة معينة، واليهود بهذه الطريقة، والفلسطينيين بتلك الطريقة، وما إلى ذلك، تكشف الأبحاث التجريبية أن الفئات الوطنية والعرقية متنوعة وتشمل وجهات نظر مختلفة داخلها. ومن المفهوم والغني عن القول أن هناك من يسعى للسلام وآخرون يحرضون على الحرب في كلا الجانبين، لكن كانت النتيجة المشجعة في دراستنا هي أن البيانات المؤيدة لمشروع الاندماج حظيت بدعم قوي من جانب كلا المجموعتين. بمعنى آخر، كشفت دراستنا أن الغالبية العظمى من المالطيين والعرب المستجيبين في دراستنا يفضلون الاندماج، في حين حظيت البيانات المناهضة للاندماج بدعم أقل بشكل ملحوظ.

بالطبع لم تكن هذه النتيجة الوحيدة الملحوظة في دراستنا؛ فلقد طلبنا أيضًا من المشاركين في الدراسة الإشارة إلى ما يعتقدون أنه رأي أفراد المجموعة الأخرى بشأن الادعاءات التي قاموا بتصنيفها، أي أننا طلبنا من المالطيين أن يخبروننا عن توقعاتهم فيما يتعلق برأي وادعاءات المجتمع العربي تجاه الاندماج، وطلبنا من العرب أيضًا أن يخبروننا عن توقعاتهم فيما يتعلق برأي ادعاءات المجتمع المالطي تجاه، حول كل ادعاء موجود في الجدول رقم 1.

عند مقارنة هذه المعتقدات مع مستويات الدعم الفعلية من قبل كل مجموعة، توصلنا إلى نتيجة مذهلة؛ وهي أنه بينما نسبت مجموعة العرب مستوى مماثل من الدعم لمختلف البنود إلى تلك التي قدمها فعليًا المالطيون، لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لتصورات المالطيين عن العرب. أي أن المستجيبين المالطيين قللوا بشكل كبير من مستوى الدعم الذي قدمه العرب للبنود المؤيدة للاندماج، وقد زادوا بشكل كبير من مستوى الدعم الذي منحه المستجيبون العرب للبنود المعارضة للاندماج. بالطبع كانت هذه نتيجة حاسمة بالنسبة لنا؛ حيث كشفت أن المشاكل بين المجموعتين من المالطيين والعرب في مالطا لا تنبع من اختلاف الأفكار والطموحات العلاقاتية، بل تنبع من سوء فهم نوايا العرب من جانب المالطيين. بمعنى آخر، يعتقد المالطيون أن العرب لا يرغبون في الاندماج، في حين أنهم في الحقيقة يرغبون في ذلك. هذه نظرة نقدية لأنها تشير مباشرة إلى نقطة التدخل التي يمكن أن تحسن العلاقات بين المجموعات في مالطا. لذلك، يُنصح صانعو السياسات بتوجيه انتباههم إلى سوء فهم هذا من جانب المجموعة المالطية. إن الجهود الرامية إلى تعزيز مشروع الاندماج مع مجموعة المالطيين والعرب على التوالي في غير محلها - فكل من الجماعتين ملتزم بالفعل.

 

الخلاصة

ندرك أن نموذج PASS الذي وضعناه ليس مصممًا بشكل خاص لتوجيه مبادرات التنمية المحددة، إلا أننا نؤكد أنه يوفر مخططًا عامًا لتوجيه التدخلات التنموية في أي مجال؛ حيث يبدأ النموذج بتحديد مشروع (Project [P]) ذو مصلحة واهتمام مشترك (Buhagiar & Sammut, 2020)، كما كان الحال في دراستنا حول اندماج المهاجرين في مالطا. ومن الممكن أن يتكون أي قضية أخرى مشتركة ومعترف بها مشروع دراسة على غرار قضية المهاجرين في مالطا، مثل الوقاية والعلاج من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، أو تعزيز برامج التعليم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، أو تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وما إلى ذلك. لا بد لأي مشروع يتم التحقيق فيه أن يكشف عن تنوع الآراء عبر أي فئة اجتماعية-ديمغرافية. وبالتالي، فإن الخطوة الثانية في نموذجنا تتمثل في تفكك مبررات الحجج (Argumentations [A]) التي تدعم هذه الآراء، سواء كانت مؤيدة أو معارضة للمشروع المعني (Buhagiar & Sammut, 2023b)، وهو ما يوفر فهمًا مفصلًا لأوجه تأييد ومناهضة هذا المشروع. والأهم من ذلك، أنه يقدم فهمًا للتفكير القائم على السياق لأنه ينطبق على مجموعات معينة على الإسناد (أو الإسناد الخاطئ) من قبل البعض للآخرين. بعبارة أخرى، لا يُعتبر وجهة النظر الخاصة بأي فرد مفضلة بالضرورة أو تحظى بقدر من الأولوية مقارنة بوجهات النظر الأخرى. بهذه الطريقة، يوازن نموذجنا PASS مجال اللعب.

تتضمن الخطوة الثالثة من إجراءاتنا قياس (Scaling [S]) العناصر من تلك الأكثر تأييدًا إلى تلك الأكثر معارضة لإنجاز المشروع. وهذا تتيح الخطوة الأخيرة، وهي مسح (Surveying [S]) توزيع الآراء وإسناد الآراء لفهم (أ) مستوى التأييد أو المعارضة الذي يحظى به المشروع بين مجموعات معينة، (ب) مستوى الاتفاق أو التباين في التوزيعات عبر مجموعات مختلفة، (ج) مستوى الفهم أو سوء الفهم التي تظهرها مجموعات معينة بالنسبة إلى المجموعات الأخرى. وبهذه الطريقة، يعمل نموذج PASS (Project; Argumentation; Scaling; Survey) على تعميق فهمنا لآراء الآخرين من وجهة نظرهم الخاصة بدلاً من الحكم المسبق عليهم على أساس آرائهم الفردية. والأهم من ذلك، أن هذا النموذج يعمل على تعزيز فهمنا لمكان سوء الفهم بين المجموعات، وهو ما يتيح اتخاذ إجراءات تصحيحية تعاونية بناءً على التطلعات المشتركة. علاوة على ذلك، يمكّن نموذج PASS صانعي السياسة من توصيل الرسائل إلى مجتمعات معينة من المعروف أنهم يفهمونها. في مثالنا، يتمتع صانعي القرار المالطيين بالقدرة على إشراك السكان المالطيين على أساس المنطق الذي يبدو منطقيًا بالنسبة إلى المالطيين مع إشراك المجتمع العربي على أساس المنطق الذي يبدو منطقيًّا بالنسبة إلى العرب. وبالتالي، فإن هذا يتجنب تفضيل وجهات نظر معينة على أنها آراء منطقية ووجهات نظر متناقضة على أنها مجرد هراء (Sammut & Bauer، 2021). بدلاً من ذلك، تم تصميم نموذج PASS لاحترام واستخدام أنواع الحس السليم التي تكثر داخل المجتمعات المحلية نحو الإنجاز التعاوني للمشاريع ذات الاهتمام المشترك. وبهذه الطريقة، لم تعمل الاختلافات الطبيعية والثقافية في الجنس البشري على تقسيمنا، بل إنها توفر اللبنات الأساسية للمشاركة في بناء برامج شاملة تخدم التطلعات البشرية الطبيعية نحو حياة أفضل.

 

 

 

 

 

4- الدكتور أنس بوهلال - فنلندا

الملخص

          ظل مفهوم ثقافة السلام يتغير ويتطور منذ عدة سنوات ضمن منظومة الأمم المتحدة، والكيانات التابعة لها، مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، منذ أن تم وصفه للمرة الأولى في مدينة ياموسوكرو في ساحل العاج عام 1989؛ ويدعو هذا المفهوم إلى تحويل وتطوير بدائل للقيم، والاتجاهات والسلوكيات الضرورية والكافية لإعداد وتطوير ثقافة الحرب والعنف: مفهوم السلطة كقوة، صورة العدو الذي لا يتمتع بنفس الحقوق التي تمتع بها أنت، البنية الاجتماعية الاستبدادية، السرية، والتسلح. وقد دعت الأمم المتحدة، في إعلانها وبرنامج عملها بشأن ثقافة السلام، إلى حركة عالمية من أجل ثقافة السلام.

وتشكل ثقافة السلام مجموعة من القيم والمواقف وأنماط السلوك وأساليب العيش التي تنبذ العنف وتحول دون وقوع الصراعات عن طريق معالجة أسبابها الجذرية من أجل تسوية المشاكل بالحوار والتفاوض فيما بين الأفراد والجماعات والدول.

اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان وبرنامج عمل الأمم المتحدة في 13 سبتمبر 1999، باعتباره الوثيقة الأساسية لثقافة السلام، وأحد أعظم الوثائق التي أنتجتها الأمم المتحدة على الإطلاق، على قدم المساواة مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأنه يوضح بعبارات ملموسة كيف يمكن للأمم المتحدة أن تحقق غرضها الأصلي، وهو القضاء على الحرب.

إن تعزيز السلام من خلال التعليم هو في صميم مهمة اليونسكو، وتعمل منظمة اليونيسكو، كما هو مذكور في دستورها لعام 1945، على تعزيز السلام الدولي والرفاهية المشتركة للبشرية من خلال العلاقات التعليمية والعلمية والثقافية بين شعوب العالم. على الرغم من أن العالم قد تغير كثيرًا على مدى السنوات السبعين الماضية ولا يزال يتغير بمعدل متزايد، فإن مهمة اليونسكو - التي تتمثل في الالتزام بتعزيز القيم العالمية للسلام واللاعنف وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والحوار بين الثقافات والتفاهم المتبادل – لا تزال مهمةً قائمةً بإلحاح وبصورة متزايدة.

إن نهج اليونسكو في التعليم من أجل السلام يتسم بأنه نهجٌ متعدد الأبعاد، من حيث إنه يربط التعليم بمجموعة من الأنشطة التي تعالج الأسباب الجذرية للعنف، بداية من الأمن البشري ووصولًا إلى التنمية المستدامة (SDGs)، كما أن الهدف من برامج اليونسكو وشراكاتها التعليمية يتمثل في تطوير أنظمة تعليمية شاملة تتبنى مبادئ حقوق الإنسان، والتفاهم بين الثقافات، والتسامح.

يصف هذا التعقيب دور اليونسكو في تعزيز التعليم من أجل السلام واللاعنف، ويعزز المعرفة والمهارات والمواقف والسلوكيات التي تعكس هذه القيم وتلهمها، كما يعتمد التعقيب بشكل أساسي على توحيد منشور اليونسكو.

 

المفهوم وتاريخه

"تقوم ثقافة السلام على المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، وعلى احترام حقوق الإنسان والديمقراطية والتسامح، وتعزيز التنمية وتعليم السلام، والتدفق الحر للمعلومات، ومشاركة المرأة بشكل أوسع كجزء لا يتجزأ من النهج المتبع في منع العنف والصراعات، والجهود الرامية إلى تهيئة ظروف للسلام وتعزيزه."

ترتبط ثقافة السلام ارتباطًا جوهريًا بالنضال غير العنيف، وقد أطلق المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ على هذا المفهوم اسم "اللاعنف النشط"، وأظهرا أنه على الرغم من أن المسيرة غير العنيفة إلى الحرية قد تتسم بأنها طويلة وشاقة، إلا أنها تظل طريقة مؤكدة لتحقيق السلام. في الكفاح من أجل ثقافة السلام واللاعنف، لا يوجد أعداء، بل يجب اعتبار الجميع شركاء محتملين. وتتمثل المهمة في الجدال والتفاوض باستمرار مع المنخرطين في ثقافة العنف والرافضين للتخلي عن النضال، حتى يقتنعوا بالانضمام إلى العمل من أجل ثقافة السلام. وبعد مرور نحو ستين عامًا على تأسيس منظمة اليونيسكو، تسلط ثقافة السلام الضوء وتساعد الناس في جميع أنحاء العالم على العيش وفقًا للمبادئ نفسها التي ألهمت إنشاء المنظمة؛ حيث أن لدى اليونسكو مجموعة كبيرة ومتنوعة من المهام، لكن مهمتها الوحيدة هي بناء السلام. تنص المادة الأولى من دستور اليونسكو على أن: "يتمثل هدف المنظمة في الإسهام في تحقيق السلام والأمن من خلال تعزيز التعاون بين الدول من خلال التعليم والعلوم والثقافة لتعزيز الاحترام الشامل للعدالة وسيادة القانون وحقوق الإنسان والحريات الأساسية المؤكَّدة لشعوب العالم، دون تمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين."

هذا هو الطريق الذي خطونا فيه بالفعل خطوات هامة نحو التقدم؛ بعضها على مستوى العلاقات الحكومية، مثل مؤتمر لاهاي للسلام في عام 1899؛ عصبة الأمم المتحدة في عام 1919؛ والأمم المتحدة واليونسكو في عام 1945؛ ومؤتمر ياموسوكرو في ساحل العاج حول السلام في أذهان البشر الذي صاغ لأول مرة فكرة "ثقافة السلام" في عام 1989.

نشأت ثقافة السلام في ياموسوكرو (ساحل العاج) في عام 1989، وتم اعتمادها كبرنامج لليونسكو في عام 1995، وأصبحت الآن حركة عالمية، تهدف إلى ضمان الانتقال من ثقافة الحرب والعنف والفرض والتمييز إلى ثقافة اللاعنف والحوار والتسامح والتضامن، يشارك فيها الأفراد والمؤسسات والدول، كما نفذ عدد كبير من الشركاء - بما في ذلك المجموعات النسائية، ومجموعات الشباب، والمعلمين، ورؤساء البلديات، وأعضاء البرلمان، والقوات المسلحة ووسائل الإعلام، والصحفيين، والشخصيات الدينية، وممثلي الشعوب الأصلية، والفنانين، وغيرهم الكثير - بمشاريع مهمة في ذلك الإطار.

في عام 1997، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 2000 عامًا عالميًّا لثقافة السلام، وفي عام 1998 أعلنت الفترة من عام 2001 إلى 2010 "العقد الدولي لثقافة السلام واللاعنف لأطفال العالم"، كما تم الإعلان عن "ميثاق عام 2000 لثقافة السلام واللاعنف"، الذي صاغه الفائزون بجائزة نوبل للسلام، في 4 مارس 1999، وهو حدث أعطى انطلاقة لحملة توعية عامة على مستوى العالم لتعزيز أهداف السنة الدولية لثقافة السلام.

وفيما يلي مخطط لبعض البرامج التي تشارك فيها اليونسكو لتعزيز ثقافة السلام وعقد ثقافة السلام الدولي، وهو ما تطلق عليه منظمة اليونيسكو "موضوعًا متقاطعًا" أو برنامجًا متعدد التخصصات.

إن تعزيز السلام من خلال التعليم هو في صميم مهمة اليونسكو، وتعمل منظمة اليونيسكو، كما هو مذكور في دستورها لعام 1945، على تعزيز السلام الدولي والرفاهية المشتركة للبشرية من خلال العلاقات التعليمية والعلمية والثقافية بين شعوب العالم.

على الرغم من أن العالم قد تغير كثيرًا على مدى السنوات السبعين الماضية ولا يزال يتغير بمعدل متزايد، إلا أنَّ مهمة اليونسكو - التي تتمثل في الالتزام بتعزيز القيم العالمية للسلام واللاعنف وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والحوار بين الثقافات والتفاهم المتبادل – لا تزال مهمةً قائمةً بإلحاح وبصورة متزايدة. إن نهج اليونسكو في التعليم من أجل السلام يتسم بأنه نهجٌ متعدد الأبعاد، من حيث إنه يربط التعليم بمجموعة من الأنشطة التي تعالج الأسباب الجذرية للعنف، بداية من الأمن البشري ووصولًا إلى التنمية المستدامة.

إن الهدف من برامج اليونسكو وشراكاتها التعليمية يتمثل في تطوير أنظمة تعليمية شاملة تتبنى مبادئ حقوق الإنسان، والتفاهم بين الثقافات، والتسامح؛ حيث إن تعليم ثقافة السلام واللاعنف يعزز المعرفة والمهارات والمواقف والسلوكيات التي تعكس هذه القيم وتلهمها.

بصفتها الوكالة الرائدة ضمن منظومة الأمم المتحدة للعقد الدولي لثقافة السلام واللاعنف من أجل أطفال العالم، 2001-2010، فإن منظمة اليونسكو تتحمل مسؤولية تنسيق وتنفيذ الأنشطة التي تعزز أهداف العقد بشكل مباشر من خلال التعليم والعلوم والثقافة والاتصالات والمعلومات.

تشكل ثقافة السلام مجموعة من القيم والمواقف وأنماط السلوك وأساليب العيش التي تنبذ العنف وتحول دون وقوع الصراعات عن طريق معالجة أسبابها الجذرية من أجل تسوية المشاكل بالحوار والتفاوض فيما بين الأفراد والجماعات والدول.

تعمل اليونسكو على تعزيز ثقافة السلام من خلال منصة مشتركة بين العديد من القطاعات، تشمل هذه المنصة جميع القطاعات الخمسة لليونسكو: التعليم، والعلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، والثقافة، والاتصال والمعلومات، وتسعى هذه المنصة إلى تضمين الحوار الثقافي في السياسات والإجراءات الرامية إلى تعزيز التفاهم المتبادل والتسامح والاحترام، والتي تُعتبر كلها قوى إبداعية نحو تحقيق مستقبل مستدام. بالإضافة إلى ذلك، ستقوم المنصة المتعددة القطاعات أيضًا بتطوير أدوات مبنية على الممارسات الجيدة في الحوار بين الثقافات.

 

ما هو تعليم السلام؟

يشمل التعليم من أجل اللاعنف والسلام التدريب والمهارات والمعلومات الموجهة نحو غرس ثقافة السلام القائمة على مبادئ حقوق الإنسان؛ حيث لا يوفر هذا النوع من التعليم المعرفة بثقافة السلام فحسب، بل ينقل أيضًا المهارات والمواقف اللازمة لنزع فتيل النزاعات المحتملة والتعرف عليها، وتلك اللازمة للترويج بنشاط لثقافة السلام واللاعنف وترسيخها.

قد تشمل الأهداف التعليمية لتعليم السلام فهم مظاهر العنف، وتنمية القدرات على الاستجابة البناءة لهذا العنف، والمعرفة المحددة ببدائل العنف.

هناك مفهومان أساسيان يقوم عليهما تعليم السلام هما الاحترام والمهارات؛ حيث يشير الاحترام إلى تنمية احترام الذات والآخرين؛ بينما تشير المهارات إلى مهارات محددة في التواصل والتعاون والسلوك تستخدم في حالات النزاع.

تعمل أنشطة اليونسكو ومشاريعها وشركاؤها في التعليم من أجل السلام واللاعنف من خلال نهج شامل لترسيخ وتعزيز الاحترام والمهارات اللازمة لبناء ثقافة السلام.

 

تعاون اليونسكو مع الدول الأعضاء

بصفتها منظمة حكومية دولية، تتعاون اليونسكو – أولاً وقبل كل شيء – مع الحكومات في إعادة توجيه السياسات التعليمية (بما في ذلك التشريعات التعليمية الوطنية) نحو القيم التي تضع الأساس للسلام واحترام حقوق الإنسان، وهو ما يستلزم تقديم المساعدة التقنية وبناء القدرات في المجالات التالية:

-         صياغة السياسات والاستراتيجيات الوطنية لإصلاح نظام التعليم الوطني.

-         تدريب العاملين في مجال التعليم، وصانعي السياسات، والمعلمين على بناء قدرات المؤسسات الوطنية؛

-         تحسين المناهج الدراسية؛

-         مراجعة وتكييف الكتب المدرسية والمواد التعليمية.

تسهم اليونسكو في تعزيز أنشطة التعليم من أجل السلام عن طريق تقديم الدعم للدول الأعضاء لدمج رؤية شاملة للتعليم ذو الجودة التي يعزز قيم ثقافة السلام على جميع مستويات الأنظمة التعليمية في هذه الدول.

بالإضافة إلى ذلك، توفر المنظمة وسائل دعم مختلفة، مثل الإنتاج المشترك للكتب المدرسية من قبل بلدين أو أكثر كأساس للتفاهم المتبادل؛ وتطوير مواد تعليمية مناسبة ثقافيًا ولغويًا؛ وتقديم الدعم للدول الأعضاء الراغبة في إجراء تنقيحات ثنائية أو متعددة الأطراف للمناهج والكتب المدرسية لإزالة التحيزات أو القوالب النمطية، وتعزيز تدريب المعلمين والبرامج التعليمية في مجال السلام والتثقيف في مجال حقوق الإنسان.

 

رصد الأدوات المعيارية الدولية

لطالما لعب وضع المعايير دورًا محوريًا في أنشطة اليونسكو، وينطوي أحد الجوانب المهمة لعمل اليونسكو على رصد وتقييم ودعم الدول الأعضاء في تنفيذ أدوات وضع المعايير الخاصة بمنظمة اليونسكو (الاتفاقيات والتوصيات).

 

أمثلة على أدوات وضع المعايير:

·       إن توصية اليونسكو لعام 1974 بشأن التعليم من أجل التفاهم والتعاون والسلام على الصعيد الدولي والتعليم المتعلق بحقوق الإنسان والحريات الأساسية يمثل تفصيلًا للمادة 26.2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث تحدد التوصية المبادئ التوجيهية لعمل اليونسكو لتعزيز التعليم في مجال السلام واحترام حقوق الإنسان. http://www.unesco.org/education/nfsunesco/pdf/Peace_e.pdf 

·       إن الإطار المتكامل للعمل في مجال التعليم من أجل السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية لعام 1995 هو الآلية الرئيسية لليونسكو للعمل في مجال التعليم من أجل حقوق الإنسان والمواطنة، حيث يقدم الإطار رؤية معاصرة للمشاكل والاستراتيجيات المتعلقة بالتعليم من أجل السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية. http://www.unesco.org/education/nfsunesco/pdf/REV_74_E.PDF

 

إقامة الشبكات، والدعوة، والبحث

تعمل اليونسكو على تعبئة الإرادة السياسية وحشدها وتنسيق جهود شركاء التنمية والحكومات والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات التعليمية والمجتمع المدني لتعزيز التعليم من أجل السلام واللاعنف من خلال الشراكات والدعوة والنهوض بالنشاط البحثي. على سبيل المثال، من بين أمور أخرى: شبكة مشروع المدارس المنتسبة لليونسكو (ASP NET) وكراسي اليونسكو.

مشروع شبكة المدارس المنتسبة لليونيسكو (ASP Net)

تأسس مشروع شبكة المدارس المنتسبة إلى اليونيسكو في عام 1953، وهي شبكة عالمية تضم حوالي 8000 مؤسسة تعليمية في 177 دولة من الدول الأعضاء؛ حيث تعمل هذه الشبكة على مدى الأربعين عامًا الماضية على تعزيز التعليم ذو الجودة، وتنفيذ حقوق الإنسان، والتثقيف في مجال التراث العالمي، والتثقيف في مجال السلام وحقوق الإنسان، وتعزيز الممارسات الجيدة المبتكرة.

يتم تشجيع المدارس الشريكة في هذا المشروع على إجراء مشاريع تجريبية تعكس التزامها بمُثُل حقوق الإنسان والسلام والديمقراطية واللاعنف والتعلم بين الثقافات وحماية البيئة، ودعا هذا المشروع تحقيقًا لهذه الغاية المدارس الشريكة إلى تنفيذ مشاريع أصلية ومبتكرة لمبادرة "جائزة ركيزة السلام لليونسكو"، وقد نشرت اليونسكو مجموعة من هذه المشاريع المدرسية الفائزة في "مبادرات جائزة ركيزة السلام – الممارسات الجيدة لدعم التعليم من أجل السلام واللاعنف".

وانطلقت الحملة الدولية التي تحمل عنوان "الجميع متساوون في التنوع: حشد المدارس ضد العنصرية والتمييز والإقصاء" في عام 2005 بين مجموعة المدارس المشتركة في هذا المشروع، وتلتزم المدارس لمدة ثلاث سنوات، تقوم خلالها بأنشطة مثل تحليل وسائل الإعلام، وإجراء البحوث على الإنترنت، وتنظيم المؤتمرات والتبادلات المدرسية حول موضوع التنوع.

يمكن العثور على مزيد من المعلومات حول هذه الحملات وغيرها عبر الإنترنت على www.unesco.org/education/asp/ 

 

كراسي اليونسكو للتعليم من أجل السلام

تم إطلاق برنامج التوأمة/كراسي اليونسكو في عام 1991 كخطة عمل دولية تهدف إلى تعزيز التدريب والبحث من خلال التعاون بين الجامعات، وقد ساهم هذا البرنامج في إنشاء شبكات قوية وفعالة تعزز التضامن الأكاديمي في جميع أنحاء العالم. يوجد اليوم 632 كرسيًا لليونسكو و 67 شبكة توأمة تضم أكثر من 900 مؤسسة في 125 دولة. يركز ستة عشر كرسيًا وشبكة واحدة من بين هذه الشبكات أبحاثهم على التعليم من أجل السلام واللاعنف.

تعمل كراسي اليونسكو الجامعية في مجال تعليم السلام على تعزيز أنشطة البحث المتكاملة، وتطوير المناهج، وأنشطة التوثيق المتعلقة بالتعليم من أجل السلام والحل السلمي للنزاعات، وتساهم في تطوير تعليم السلام في قطاع التعليم العالي.

 

التحالف الأكاديمي من أجل السلام المستدام

تلعب الجامعات والكليات ومؤسسات التعليم العالي الأخرى دورًا حاسمًا في تحقيق أجندة أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 (الهدف 16)، وقد ذُكرت مؤسسات التعليم العالي على وجه التحديد في إطار الهدف 4 من أهداف التنمية المستدامة بشأن التعليم الجيد والشامل، ولكن تأثيرها يمتد عبر جميع الأهداف من خلال التدريس والتعلم، ومخرجات البحوث، ومبادرات الحرم الجامعي، كما تسهل مؤسسات التعليم العالي التنمية الاجتماعية والبيئية والاقتصادية، وهي واحدة من أهم حاضنات الأفكار والحلول للمشاكل العالمية، ويعني موقعها المركزي بين شبكات الحكومة والمجتمع المدني وشركاء الصناعة أن لديها إمكانات هائلة لإحداث تأثير إيجابي.

منذ أن اجتمع المجتمع الدولي للدول الأعضاء للاتفاق على خطة التنمية المستدامة لعام 2030، قامت بعض مؤسسات التعليم العالي بإنشاء مبادرات تخضير الحرم الجامعي لتحسين استدامتها الداخلية، بينما نفذت مؤسسات أخرى برامج توعية مجتمعية ومجموعات طلابية بالإضافة إلى مراكز بحث وابتكار. يوصى بشدة بأن تتخذ مؤسسة التعليم العالي المزيد من المبادرات بشأن السلام المستدام.

سيكون التركيز الرئيسي على الهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة: تعزيز وجود مجتمعات يسودها السلام وتشمل الجميع لأغراض تحقيق التنمية المستدامة، وإتاحة الفرص أمام الجميع للجوء إلى العدالة، وإرساء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة وشاملة للجميع على جميع المستويات، وسيتم خلال هذه المبادرة توجيه الدعوة إلى مؤسسات التعليم العالي لتطوير المعرفة والمهارات في مجال حل النزاعات والوساطة والسلام والمصالحة.

بالإضافة إلى ذلك، يتم تشجيعهم على مشاركة المبادرات الحالية التي تقودها جامعات من المنطقة العربية وخارج المنطقة. قد تؤدي الإجراءات إلى تطوير دورات مشتركة و/أو وحدات عبر الإنترنت حول حل النزاعات والوساطة والسلام والمصالحة بثلاث لغات: العربية والفرنسية والإنجليزية، وتطوير منصة سلام رقمية مشتركة كمستودع لمنهج البرنامج والدورات والوحدات الموصى بها ودراسات الحالة والأدبيات المرجعية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون بمثابة منصة للمناقشات البناءة وتبادل أفضل الممارسات، بما في ذلك المنشورات، باستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة.

 

bottom of page