top of page

اليوم الأول: 3 مارس 2022
الجلسة الأولى 13:00 - 11:30
دور قادة العالم

رئيس الجلسة

فخامة رئيس جمهورية مالطا، الدكتور جورج فيلا

المتحدثون

فخامة رئيس ألبانيا، إلير ميتا

فخامة رئيسة جمهورية كوسوفو، فيوزا عثماني سادريو

فخامة رئيس جمهورية كرواتيا الأسبق، ستيبان ميسيتش

فخامة رئيس أرمينيا الأسبق، أرمين ساركيسيان (رسالة فيديو مسجلة)


 


كلمة فخامة رئيس ألبانيا

إلير ميتا


         شكراً جزيلاً لك فخامة الرئيس جورج فيلا على هذا الحدث الرائع الذي تستضيفه بالاشتراك مع السيد عبد العزيز سعود البابطين.

         كما يسعدني أن أتواجد هنا في حضور فخامة رئيسة جمهورية كوسوفو، الرئيسة فيوزا عثماني، وكذلك الرئيس السابق ميسيتش، وأيضًا بحضور هذا الجمع الكبير من الشخصيات من مختلف البلدان والمؤسسات، وأيضًا من الأكاديميين ومنظمات المجتمع المدني، نظرًا لأن ما سنناقشه اليوم مهم جدًا للإنسانية كلها.

         وبينما نتحدث الآن، يتم إطلاق العديد من الصواريخ والقذائف على المدن والمستشفيات والمدارس والمنازل الأوكرانية، حيث فقد العديد من المدنيين حياتهم وأصيب الكثير منهم، فهذه فترة مظلمة ليس فقط بالنسبة إلى أوكرانيا، ولكن بالنّسبة إلى العالم بأسره، فهي توضّح أن جميع قادة العالم وجميع الفاعلين الرئيسيين في صنع السياسات في الداخل وعلى الساحة الدولية يجب أن يكونوا في حالة تأهبٍّ، وألا يعتبروا السّلام أمرًا مُسلَّمًا به.

         نعم نعيش جميعًا تحت نفس السماء، لكن كل واحد منا يرى آفاقًا مختلفة؛ ونحن نشاهد ما يحدث في إحدى الدول التي ساهمت في تأسيس الاتحاد الأوروبي، حيث إن القيادة الحقيقية تنطوي على الرؤية والتصميم على التطلع نحو المستقبل المشرق الذي يخدم الشعب والبلد ويحمي السّلام، كما أن القيادة الحقيقية هي القدرة على توقع أي خطر محتمل، والعمل بشكل استباقي بلا كلل، وأن نلهم الناس دائمًا بأن يسلكوا طريق التسامح والاندماج والوئام بين المواطنين بعضهم البعض وبين الأمم المختلفة.

         إن القيادة الحقيقية تتمثل في تجارب حقيقية، ليست فقط أقوال أو آراء، فالقادة الحقيقيون يعملون من أجل السّلام ويحمونه في جميع الأوقات، ويمكنهم منع النزاعات فقط من خلال دعم المزيد من أشكال الديمقراطية في بلدانهم، فوحدها الديمقراطية هي من يمكنها منع الحروب وبناء مزيد من الثقة بين الأمم، وإذا وفَّرت الحكومات شتى أشكال الديمقراطية والازدهار لمواطنيها، فسيتولد هناك احترام متبادل بين البلدان وبين مواطنيها، بغض النظر عن أصلهم ودينهم وعرقهم وقوتهم أو حتى حجمهم.

         هناك العديد من الصراعات في عالم اليوم يثيرها زعماء غير مسؤولين وتثيرها أيضًا شتى أنماط الإقصاء والعنف، فالقادة غير الديمقراطيين يضطهدون شعوبهم ويَولّدون حالة من الانقسام بين الأمم، ويثيرون طموحات توسعية، مسببين بذلك العديد من الصراعات، كما أنهم يهدّدون بذلك السّلام.

         يشهد العالم اليوم وبكل أسف صعود التيارات القومية والشعبوية والمتطرفة التي تميل إلى التوسعية وإحياء مفاهيم الدولة القومية والانقسامات العرقية وحتى تغيير الحدود الإقليمية.

         يجب أن نعمل على التخفيف من حدة تأثير الأحداث الأخيرة في أوكرانيا، وأن تكون تلك الأحداث درسًا وجرس إنذار لجميع قادة العالم ولشتى التحالفات الديمقراطية، وأن تكون دعوة للاستيقاظ والانتباه لمحاولات التجارب الإقليمية في مناطق أخرى، لذلك، يجب بذل مزيد من الجهود وبناء آليات قوية لضمان السّلام في مناطق أخرى من القارة والعالم.

         إن الحفاظ على السّلام في مناطق غرب البلقان يعتبر أمرًا ذا أهمية أيضًا لتحقيق السّلام في أوروبا والعالم كما رأينا أيضًا في الماضي، ونحن في ألبانيا باعتبارنا عضو غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعامي 2020 و2022، نبذل قصارى جهدنا لتعزيز السّلام وأيضًا لتهدئة الوضع في أوكرانيا، وفي المناطق الأخرى التي لا تزال لديها نزاعات ومشكلات لم يتم حلها، وهنا أحب أن أعرب عن سعادتي لما رأيت من دعمٍ كبيرٍ لقرار الأمم المتحدة بالأمس، عندما أدانت 141 دولة هذا الغزو الروسي لأوكرانيا.

         نحن ملتزمون بتقوية وتعزيز علاقات وسياسات الجوار في منطقتنا بشكل أكبر من أجل توطيد السّلام في منطقة البلقان وجعله مثالًا جيدًا يُظهر كيف يمكن أن يسود السّلام وكيف يمكن لهذا السّلام أن يضمن تحقيق التنمية المستدامة والازدهار لجميع مواطنينا.

         يعد الحفاظ على السّلام في منطقة البحر الأبيض المتوسط أمرًا ضروريًا أيضًا لحاضر ومستقبل العديد من البلدان ولمختلف القارات أيضًا، خاصة وأن منطقة البحر الأبيض المتوسط هي مهد الحضارات، وهذا المكان الجميل والرائع يمثل، منذ آلاف السنين، نقطة التقاء ثقافية وتاريخية وتجارية بين دول البحر الأبيض المتوسط والقارات المختلفة، ومالطا خير مثال على ذلك.

         هذا المزيج الرائع من الثقافات والاختلافات الغنية جـدًّا سواء بتاريخ الماضي أم الحاضر، وتلك القيم والتقاليد التي جعلت حضارات البحر الأبيض المتوسط فريدة من نوعها وذات تأثير كبير في التراث العالمي والشؤون الدولية، بالإضافة إلى الإمكانات الكبيرة والمساهمة في تحقيق السّلام العالمي في المستقبل.

         تنعم هذه المنطقة بحضارة عريقة وتنوع ثقافي وتاريخ وديانات متنوعة وموارد طبيعية وسياحة وشعبٍ رائعٍ ومضياف؛ إنه حقًّا كنز حقيقي في عالمنا ويجب التعامل معه على أنه تراث مشترك يجب أن يُوحّدِ الشعوب بدلاً من أن يُفرِّقها ويُقسِّمها. وتواجه منطقة البحر الأبيض المتوسط تحديًا، ليس فقط في ما يتعلق بالحفاظ على السّلام وتعزيزه، ولكن أيضًا من ناحية حماية التراث الثقافي والبيئي وحل أي نزاعات حالية واتخاذ تدابير جوهرية ضد تغيرات المناخ، والتركيز على تعليم الشباب من أجل تحقيق مستقبل مزدهر يقوم دائمًا على السّلام.

         إن أفضل قيمنا الوطنية، مثل؛ حب الوطن والشعب، والتسامح مع بعضنا البعض، والإيمان باللّه، واحترام كرامة الإنسان، يجب أن تكون كلها وسائل تربط البلدان والمواطنين ببعضهم وأن تكون بمثابة نواة للسّلام والوحدة.

         قال «رالف إيمرسون»: «لا يمكن تحقيق السّلام من خلال العنف، ولا يمكن تحقيقه إلا من خلال التفاهم». لذلك، يجب ألَّا يكون هناك مكان للعنف، بما في ذلك التطرف الديني، ولقد تحقق الانسجام والتعايش الديني مرات عديدة في الماضي ويمكن أن يصبح حقيقة واقعة لكل أمة، وألبانيا هنا مثال حي للعالم على ذلك، حيث ظلت لعدة قرون نموذجًا للسلام والوئام بين المجتمعات الدينية المختلفة، فعملت كل تلك الأديان على توحيد الشعبِ أكثر وأكثر وزرعت فيه حب الوطن، وهذا ما نفتخر به كثيرًا، وهنا لا بد لي من أن أشكركم أيضًا (فخامة الرئيس) على المساهمة العظيمة التي قدمها رئيس أساقفة مالطا، «جورج فريندو»، في ألبانيا، حيث كان يقود كنيستنا الكاثوليكية، وكان يخدم بلدنا وأمتنا بوصفه مواطنًا ألبانيًا حقيقيًّا، وساهم أيضًا في ترسيخ الوئام بين الأديان في البلاد، ولا ينبغي لنا أن ننسى أيضًا أن ألبانيا، ولمدة 50 عامًا في ظل النظام الشيوعي، كانت بلدًا يُمنع فيه الإيمان باللّه طبقًا للدستور، وهو أمر لم يحدث حتى في البلدان الشيوعية السابقة في أوروبا.

         أيضًا، يجب على الحكومات أن تستثمر أكثر في كلٍّ من التعليم والشباب، وهما من بين أساسيات نشر التسامح في المجتمعات، كما يشكلون آفاقًا للمستقبل وأساسًا لبنية السّلام، ويجب على الحكومات أيضًا أن تعمل على تربية الأطفال في المدارس على ثقافة السّلام والتسامح، وتربيتهم على ترك لغة الكراهية والتمييز على أساس العرق أو الدين، ويجب أن يلتزموا بتعزيز التسامح والوئام والتعاون بين الثقافات، وتثقيف الأجيال الجديدة بالقيم التاريخية والسمات الثقافية للشعوب الأخرى والأمم الأخرى أيضًا.

         يجب أن يتنافس القادة الحقيقيون على القضاء على الفقر وعدم المساواة والإقصاء لأنها أمور تتسبب في اشتعال صراعات اجتماعية يمكن أن تعيد انتشار الراديكالية والنزاعات العرقية، وتشكل تهديدًا للوئام والاستقرار على الصعيدين المحلي والإقليمي.

         أيها الضيوف الكرام، يظل السّلام دائمًا هشًّا ومهددًا، لذلك يجب أن نعمل من أجل الحفاظ عليه في كل ثانية وكل دقيقة؛ فالسّلام ليس هدية، ولكن يجب الاهتمام به والحفاظ عليه في جميع الأوقات، وإذا ما تكاسلنا عن حمايته وأهملنا فيه، سنستيقظ في يوم من الأيام لنجد أنفسنا في حالة حرب، ويجب أن تتمحور مهمة كل قائد وتطلعات كل أمة حول شيئيْـن مرتبطيْـن ببعضهما البعض، وهما السّلام والازدهار، وللقيام بذلك، يجب أن يكون السّلام طريقةً لتفكيرنا، وتفكيرِ أطفالنا وصغارنا، يجب أن يكون أسلوبنا في التصرفات اليومية وأن يكون منهج حياة.

أشكركم شكرًا جزيلًا، وأعتذر على الإطالة.

 

 

 

كلمة فخامة رئيسة جمهورية كوسوفو

فيوزا عثماني سادريو


فخامة الرئيس جورج فيلا،

الرئيس ميتا،

الرئيس ميسيتش،

معالي رؤساء البرلمانات،

الحضور الكريم،

عزيزي منظم هذا المنتدى المحترم السيد عبدالعزيز سعود البابطين،

أعزاءي المشاركين في المنتدى العالمي الثّاني لثقافة السّلام،

سيداتي وسادتي،

         إنه لأمر رائع أن أكون هنا اليوم في مدينة فاليتا الجميلة، وأشكركم جميعًا على اختيار موضوع السّلام العادل، باعتباره قوةً توحد الشعوب، لأن السّلام حقًا هو ما يجمع الناس معًا، ويشرفني أن تتاح لي الفرصة للتحدث إليكم هنا اليوم، وأن أمثّل أمةً محبةً للسلام، أن أمثل شعب جمهورية كوسوفو في هذا المنتدى.

         أيها المشاركون المحترمون، إن السّلام هو شيء يعتُّز به شعبي كثيرًا لأننا نعرف العكس المباشر له، فنحن ندرك ذلك الدَّمار المطلق الذي يحدث عندما يكون هناك غيابٌ للسّلام، ونفهم ونعتز بالحريات والديمقراطية، ولكن قبل كل شيء، فإنَّ شعب كوسوفو يحترم القيم الإنسانية وحقوق الإنسان.

         كل شخص على هذا الكوكب، ليس فقط يستحق السَّلامَ، ولكن له الحق المطلق فيه، وأعتقد أن هناك الكثير يمكن أن نقوم به، سواء كنا قادة للعالم أو أفرادًا، للمساهمة في ذلك من خلال الاستماع لبعضنا البعض ومن خلال جهود الحوار والوساطة.

         واقتباسًا من السيدة الأولى السابقة، والدبلوماسية والناشطة، إليانور روزفلت؛ «لا يكفي الحديث عن السّلام، بل يجب على المرء أن يؤمن به، ولا يكفي أن نؤمن به، بل يجب على المرء أن يعمل من أجل الوصول إليه»، يجب أن نعمل على ذلك لأن السّلام والأمن عاملان أساسيان في حياة الإنسان، كما أن وجود بيئة سلمية وآمنة أمر بالغ الأهمية لكل مجتمع لأنه يؤثر في شتَّى جوانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أي بلد.

         مع أخذ ذلك في الاعتبار، أرى أنه سيكون من باب التقصير أن أقف هنا اليوم وأتحدث عن السّلام في الوقت الذي يتمَ فيه انتهاك هذا السَّلام نفسَهُ بطريقة صارخة بينما نتحدث، فالقارة الأوروبية في حالة طوارئ، وفي الوقت الذي نجتمع فيه هنا اليوم لمناقشة القيادة من أجل السّلام العادل، يواجه شعب أوكرانيا العدوان والإرهاب والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان مرة أخرى بعد ما يقرب من مرور 80 عامًا على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد 23 عامًا من انتهاء الحرب في كوسوفو؛ لقد اهتزَّتْ أوروبا بسبب ما وعدنا بأنه لن يحدث مرة أخرى.

أصدقائي الأعزاء،

         إن ما يحدث الآن في أوكرانيا وفي أجزاء كثيرة من العالم لن يتوقف عن الحدوث، ولن يتوقف ما حدث في الماضي عن تكرار نفسه طالما تُمارس لغة الاسترضاء مع الطغاة والمعتدين.

         في مثل هذه المواقف، إنَّ الصمت أو اختيار الصمت يجعل المرء متواطئًا مع ما يحدث، لأنه يجب علينا عند مواجهة الظلم وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أن نرفع صوتنا الجماعي من أجل الإنسانية ومن أجل العدالة والسّلام.

         وبينما تواجه أوكرانيا حربًا غير مبررة، ويشهد العالم ويرى بعينيه تلك الحرب وهي تتكشف أمام أعيننا، لَا يسعنا هنا إلا أن نتوقف قليلًا ونتساءل؛ ما هو بالفعل دور قادة العالم؟ في حين أن هذا قد يبدو بالنسبة إلى الكثيرين أمرًا مبالغًا فيه، إلا أن الإجابة على هذا السؤال قد تحدّد مصير مجتمعاتنا ومصير تاريخ أيامنا هذه.

         وخلال هذه الأوقات المظلمة بالنسبة إلى قارتـنا، يجب أن نتذكر حقيقة أساسية، هيَ أنه إذا لم يَسُد السّلام في أوكرانيا، فسيصبح السّلام العالميُّ في خطر أيضًا، وإذا فشل قادة العالم في أن يتحدوا ويقفوا في وجه العدوان وشهوات الهيمنة للحكام المستبدين في العصر الحديث، فإنه قد يحين الدور على الديمقراطية أيضًا لتفشل بعد ذلك.

         إنه لأمر رائع أن نرى أنه في هذه اللحظات، أصبح العالم الديمقراطي أكثر اتحادًا من أي وقت مضى، وأصبحت هناك لغة واضحة، وهي لغة الحقيقة والتعاطف ودعم بعضنا البعض، وكذلك الأفعال المصاحبة لتلك اللغة، والتي هي بمثابة أفضل الأدوات لدينا لتحدّي القوى التي تقف على الجانب الآخر، فالطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها الحفاظ على السّلام هي من خلال التفاهم والحوار، بينما قد يبدو الأمر صعبًا أو مستحيلًا في بعض الأحيان، إلّا أنَّها أفضل فرصة لدينا لصون ذلك السّلام وترسيخه.

أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة،

السيدات والسادة،

         على الرغم من التقدم الهائل الذي أحرزناه اليوم كدولة، بل وقارة، يجب علينا جميعًا أن نتذكر أن التهديدات التي يتعرض لها السّلام والأمن لا تزال مستمرة ونشطة، وبينما أشعر بالكثير من الفخر وأنا أنظر إلى التقدم الذي أحرزته كوسوفو، وبينما أشعر بالكثير من التفاؤل بمستقبلنا باعتبارنا دولة مستقلة وذات سيادة، لا بدَّ لي من أن أذكر أن الاعتداءات الصارخة على سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها قد صدمت العالم بحقّ، كما أنها صدمت حقًا الجزء الخاص بنا من العالم.

         لقد صُدمنا لأنَّ ذلك أظهر أن المعركة التي تدور رحاها بين الديمقراطية والهيمنة، تدور في الواقع حول أكثر بكثير من مجرد دولة واحدة وجارٍ معتَدٍ، حيث يتعلق الأمر في النهاية وبشكل مطلق بالصراع بين القيم والهجوم النَّشِط على القيم الراسخة التي تقف بقوة أساسًا من أسس قارتنا واتحادنا. ومع ذلك، فإن ما تعلمّناه أيضًا في أحلك اللحظات هو الحاجة إلى الوقوف معًا جنبًا إلى جنب مع تعزيز قيم الإنسانية والسّلام والحريات الديمقراطية، فعندما تتعرض طريقتنا في الحياة السلمية للتهديد بهذه الطريقة المتعمدة، يجب أن نعمل معًا من أجل مستقبل أكثر إشراقًا وسلامًا.

         في هذه الأوقات العصيبة التي تمر على الإنسانية، دعونا نتعهَّد جميعًا بأن نكون صوتًا يدافع عن الأبرياء الذين يواجهون العدوان، الذين يتعرضون للهجوم من قبل معتدين لا حدود لأطماع هيمنتهم، دعونا نوحّدِ أصواتنا حتى يمكن سماعنا بشكل جماعي عندما نقول إن السّلام والديمقراطية سوف يسودان مرة أخرى، فلقد انتصرا في كوسوفو في عام 1999، وسوف يسودان وينتصران مرة أخرى في أوكرانيا وأماكن أخرى في العالم الآن في عام 2022.

         وبينما نحارب الدعاية الروسية بشكل مشترك، دعونا لا ننسى أن التنسيق والتواصل، وبلا أدنى شك، هما الركيزة الأساسية لذلك المستقبل الأكثر إشراقًا وازدهارًا وسلمًا.

سيداتي وسادتي،

         أودُّ أن أتوقَّفَ لحظة لأقول إن هذه فرصتنا لنثبت لأطفالنا وللأجيال القادمة أن العالم الذي توحّدِ فيه الثقافة الناس وتتخطى الانقسامات، وإنَّ العالم الذي تظل فيه حقوق البلدان، بغض النظر عن حجمها، محمية ومصانة، في عالم يزدهر فيه السّلام العادل، هو بالفعل عالم ممكن.

         ومع تزايد اتجاهات المعلومات المضلّلِة والأخبارِ المزيفة وظاهرة المُتصيّدِين، فإننا نتعرّض باستمرار لحقائق مختلفة، حقائق مُزيّفة، يتمِّ تشكيلها وصياغتها لإثارة ردود فعل عاطفية، ومندفعة، وأحيانًا غير عقلانية.

         إنها القوة الهائلة للمعلومات الـمُضلِّلة والأخبار المزيفة التي تهدد الديمقراطيات وتحطم الحقائق القائمة على الوقائع، ولكنْ لهذا أيضًا علاج وحل مستدام، والإجابة على هذا بسيطة؛ إذْ نحتاج استخدام أصواتنا بشكل جماعي، كما نحتاج استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على وجه التحديد وبدقة لغرض الكشف عن هذه الحقيقة السلبية، ونحتاج العمل الجاد للتأكد من أن وسائل التواصل الاجتماعي تعمل لصالحنا جميعًا، لصالح الحقيقة وليس العكس، نحتاج تسخير وسائل التواصل الاجتماعي في خدمة السّلام، وفي مواجهة هذه التطورات، لا يمكن لقادة العالم أن يقفوا مكانهم مكتوفي الأيدي. بل يجب عليهم ألاَّ يقفوا مكتوفي الأيدي.

         إن من واجبنا الأخلاقي والدستوري أن نتأكد من وضع حد لمعاناة وخسائر مواطنينا، وعلى قدم المساواة، أن نحارب الظلم وعدم المساواة في شتى مناحي الحياة.

         تقع على عاتقنا جميعًا مسؤوليتنا النهائية أن ننطق بالحق وأن نسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية، وبينما نسعى جاهدين للقيام بذلك، فلنتأكد من أننا ننقل رسالة واضحة لشعوبنا وبلداننا وللعالم أجمع، دعونا نتأكد من الالتزام واختيار السّلام دائمًا أولًا.

سيداتي وسادتي،

         إن أحداث العالم اليوم هي بالتحديد سبب حاجتنا إلى الاعتزاز بالسّلام والعمل من أجله لأن العكس هو الموت والدمار، ولقد عرف شعب كوسوفو نقيض السّلام منذ فترة طويلة، وهم الآن يعرفون جيدًا حجم الآلام والمعاناة التي سببها نقيض السّلام والديمقراطية، ولهذا أنا فخورة جدًا بتمثيل مثل هذه الأمة المحبة للسلام، والتي عملت من أجل السّلام طوال تاريخها بأكمله.

         ولهذا السبب، فإن التزامنا ومشاركتنا النشطة من أجل السّلام والأمن والاستقرار في منطقتنا، غرب البلقان، وما وراءها، هو أكثر من مجرد وظيفة، إنه واجب مقدس ندين به للأجيال القادمة حتى لا يضطرّوا أبدًا إلى أن يمرّوا يومًا بما كان علينا أن نمرّ به.

         السّلام هو حالة من الانسجام، والوئام هو حالة من التضامن، والحرية هي ما تربط كلَّ ذلك بعضه ببعض. السّلام هو الوحدة والالتزام المشترك لجعل هذا الشعار حقيقة مرة أخرى وليس مجرد كلمات أو أقوال، ولكن السّلام على المدى الطويل يكون ممكنًا فقط عندما يكون هناك عدالة، ويكون ممكنًا دائمًا عندما يتواجد النساء أيضًا على طاولة السّلام والحوار.

         فلنعمل معًا لجعل ذلك ممكنًا، ولنوحّد قوانا وأصواتنا لإظهار القيادة الحقيقية خلال هذه الأوقات المدمرة حتى نرى جميعًا مستقبلًا أكثر إشراقًا وأفضل وأكثر سلامًا، وكما نقف هنا اليوم، وبمجرد أن نعود إلى بلداننا، دعونا نتأكد من أننا نحافظ دائمًا على حالة من الإصغاء الجاد للآخرين، وعقل منفتح على الآخرين، وأن نلتزم بالحفاظ على تلك الإرادة ورعايتها بشكل مستمرٍّ من أجل الصالح العام.

شكرًا لكم جميعًا.

 

 


كلمة فخامة رئيس كرواتيا السابق

ستيبان ميسيتش


أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة،

السيدات والسادة،

السّادة الحضور والضيّوف الكرام،

         نحن اليوم بصدد الحديث في موضوعٍ غاية في الأهمية، خاصة في عالم اليوم، لكن الحديث فيه ليس وليد اللحظة أو الوقت الحاضر، أو وليد احتياجات هذه اللحظة التي نعيشها، ولكنه أيضًا دَيْـنٌ علينا تجاه المسؤولية التي يتحملها الجميع، سواء كنا قادة حاليين أو سابقين. وعلى وجه التحديد، كل من تولى منصبًا رفيعًا بفضل ثقة المواطنين، لا يمكنه فحسب الحديث عن السّلام العادل، بل يجب عليه الحديث عنه، وسيكون من الأفضل لي أن أقول: يجب عليه أن يناشد هؤلاء الذين هم، بناءً على مواقعهم في الساحة الدولية، مقدر لهم أن يصنعوا القرار.

         وبوصفها جزءًا من «المنتدى العالمي الثاني لثقافة السّلام العادل»، تكرس جلسة اليوم لدور قادة العالم في تحقيق هذا السّلام. لن أتجرأ كثيرًا، بحكم أنني كنت يومًا رئيسًا للدولة، وأقدم حلولًا جاهزة لمن حضروا هنا اليوم.

لا وصفات، ولا نصائح:

         ستكون مقاربتي إزاء هذا الموضوع مختلفة إلى حدٍّ مَّا. لقد قررت أن أشارككم بعضًا من أفكاري بشأن ما يعنيه أن يكون المرء قائدًا، وما يجب أن يكون عليه ذلك القائد من أجل تحقيق ما هو متوقَّع منه. بعبارة أخرى؛ أن يكون قادرًا على المساهمة في بناء السّلام العادل وإرسَائه وصونه، فالسّلام العادل بحدِّ ذاته هو السّلام الذي يتحقق باتفاق كافة الأطراف المعنية، وهو الاتفاق الذي يشارك فيه الجميع على قدم المساواة، وهو أيضًا الاتفاق الذي لا يضر بالمصالح والأمن المشروعين لأي من الطرفين.

         قائد! الكلمة نفسها تعني الشخص الذي يقوم بمهام القيادة، وعند هذه النقطة بالتحديد، أرى أننا قد وصلنا بالفعل إلى صدام خطير بين المعنى الأساسي للكلمة، وخصائص معظم أولئك الذين يتزينون بهذا المصطلح في العالم المعاصر، وهنا لا أقصد شخصًا على وجه الخصوص، ولكنني سأسمح لنفسي بأن أقول إن أغلب زعماء العالم اليوم والقادة الوطنيين ليسوا قادة حقًا! وبالتالي، لا يمكننا أن نتوقع منهم ما يمكن أن نتوقعه أو ما ينبغي أن نتوقعه من القادة الحقيقيين.

         إن من يطلق عليهم اليوم اسم «قادة»، سواء كانوا على الصعيد الدولي أو الوطني، لا يقومون بالقيادة فعلًا، حتى إذا بدا للبعض أنهم يؤدون مهام القيادة فعلًا، إلا أنه في العادة تسير قيادتهم تلك في الاتجاه الخاطئ، فهم مجرد مسؤولون ماهرون إلى حدٍّ مَّا في تسيير الأعمال؛ أشخاص أتقنوا أسلوب أداء المهام اليومية ومهارته، وتعلموا، على نحو لا يُستهان به، كيفية تسخير كافة أنشطتهم في سبيل تحقيق هدف واحد، وهو البقاء في السلطة، والاستمرار فيها ولايةً بعد أخرى، لا أحد منهم يفكِّر في فترة زمنية للحكم أطول من أربع أو خمس أو سبع سنوات كحد أقصى، وعلى هذا المنوال تجري الانتخابات النيابية والرئاسية.

         ومع ذلك، فإن القائد هو الشَّخص الذي يفكر على المدى الطويل، وهو أيضًا الشخصِ ذو الرؤية والاستراتيجية والتكتيكات. أتذكر دائمًا أحد السياسيين المعروفين إلى حدٍّ مَا في أوروبا الغربية الذي قال ذات مرة أنه سيرسل أيَّ شخص يخبره أن لديه رؤية لفحص طبّي سريع. وبطبيعة الحال، لم تكن مزحة ناجحة للغاية، فقد فسر مصطلح «الرؤية» على أنه «الظهور». ولكنني لست هنا بصدد الحديث عن هذا، بل أتحدث عن ضرورة أن يفكر القائد الحقيقي في ما يتجاوز الحد الزمني أو إطار الانتخابات المقبلة، والتفكير في فئات أوسع، وأن تكون أمام عينيه خطة مفصلة لتحقيق الهدف المنشود، حتى يعرف كيف سيحقق رؤيته، وفي أي إطار زمني وبأية طريقة. ومن الأهمية بمكان أن يدرك أنه لا يستطيع، بل ولا يجب عليه، أن يحقق رؤيته بطريقة تُعرّض مصالح الآخرين واحتياجاتهم للخطر.

         في البداية، ومن بين أدوات تحقيق تلك الرؤية، يجب على القائد - إذا كان بالفعل قائدًا يسعى إلى تحقيق السّلام العادل - أن يستبعد خيار الحرب أو أي استخدام للقوة أو حتى مجرد التهديد باستخدام القوة، فهذه هي الأساليب والوسائل التي لا يتحقَّقُ بها السّلام العادل، ومع ذلك من الممكن فرض السّلام، ولكن هذا السّلام المفروض ما هو إلا قاعدة محدودة المدّة، بينما في جوهره يحتوي على بذور هلاكه.

         ولا يمكن تحقيق السّلام العادل إلا باتفاق متساوٍ بين المهتمين، مع احترام احتياجات ومصالح الجميع، إذ يجب أن تخضع المصالح والاحتياجات الخاصة دائمًا لمصلحة عامة واحدة مشتركة، هي السّلام.

         أعلم أن التاريخ مليء باتفاقات السّلام التي جاءت وتحققت بعد الحرب، والتي بالكاد كان أي منها عادلًا أو منصفًا. وهذا لا يعني أنه ينبغي لنا أن نتخلى عن الرؤية - وأن تلك هي رؤية حقيقية وليست وهمًا - لسلامٍ دائمٍ وعادلٍ. سأقول شيئا، راجيًا ألا يُساء فهمي فيه، وهو أني أعتقد أن البشرية أكثر استعدادًا لتحقيق سلام عادل من أولئك الذين يسمون أنفسهم قادة، سواء كانوا قادة منتخبين ديمقراطيًا أو قادة أنظمة استبدادية.

         فالبشرية لا تريد أن تعيش في حالة حرب مستمرة أو حتى في حالة خوف من وقوع حرب أو أن تعيش تحت تهديد الحرب، وَالناس العاديون يريدون السّلام حقا، لأنهم يعرفون أنه دون السّلام لا يوجد تقدم، ودون التقدم بالنسبة إلى غالبيتهم، لا توجد حياة أفضل وأفضل.

         ومن أجل خلق الشروط المسبقة لمثل هذا الشيء، يتعيَّـنُ علينا، ليس بالأقوال، بل بالأفعال، أن نعود إلى شيء كان بالغ الأهمية أثناء الحرب الباردة الأولى، وهو التعايش السلمي النشط. يجب أن نقبل كنهج عالمي للعلاقات بين الدول والشعوب أننا لسنا جميعًا متساوين، وأن لكل فرد الحق في اختيار النظام الذي يعيش فيه، والحق في تغييره، وأن التنوع ليس عائقًا أمامنا، بل هو كنزٌ لنا لنستفيد منه، إذا كان هناك شخص آخر لا يحاول تغيير الصورة والفرصة. وبهذا - أخيرًا - يمكن للشعوب والدول المختلفة، بل ويجب عليها، أن تتعاون من أجل المنفعة المتبادلة، وعلى أساس المساواة الكاملة ودون أي تمييز على الإطلاق.

         وقد يبدو للبعض أن ما أقوله قد عفا عليه الزمن، ولكنني أعتقد أنني أتحدث عن مفهوم المستقبل، لأن الهيمنة، أيًا كانت وَلأي طرف، ليس لها مستقبل، ذلك أنَّ فرض ما يعتبره المرء قيماً على قيمٍ أخرى أمرٌ ليس له مستقبل مهما تعددت وسائل تحقيق ذلك، وأن إعادة رسم العالم بإرادة قوة عظمى واحدة فقط، أو حتى عدة قوى، أمرٌ ليس له مستقبل أيضًا، فنحن لدينا عالم واحد فقط، وكُتب علينا أن نعيش فيه سويًا.

         ولذلك، فإنه يقع على عاتق القائد مسؤولية أن يساهم من خلال أفعاله ومبادراته في الوعي ليس بالضرورة فحسب، بل بالحتمية الحَرفية، والتعاون المتبادل في ظل ظروف من المساواة لكي يشمل جميع الاتجاهات.

         وبوجه عام، فإن قادة اليوم غير قادرين على القيام بذلك، ولا يكاد أحد منهم يستطيع أن يسمو فوق المصالح الحالية القصيرة الأجل الخاصة بهم في المقام الأول، ثم الخاصة بأحزابهم، ثم بدولتهم أو شعبهم. وهذا ما أكرره دائمًا: السمو فوق المصالح الحالية قصيرة الأجل.

         وأود القول إن أصابع اليد الواحدة كثيرة للغاية، وإذا أردت أن أحصي أولئك الذين لا يتناسبون مع الصورة النمطية، فسأستخدم هذا التعبير مرة أخرى، «القائم بالأعمال». ومع ذلك، فإنَّنا لا نعيش في عالم يمكننا فيه، بل ويجب علينا، أن نشعر بالرضا عن وجود القائمين بالأعمال في المناصب القيادية، فنحن نعيش في عالم خطير، مليء بالتحديات وعدم اليقين، مثل هذا العالم يبحث بشكل حتمي عن قادة ملتزمين بالهدف النهائي المتمثل في تحقيق السّلام العادل؛ يبحث عن قادة يظهرون نوعًا من المسؤولية، ليس فقط تجاه ناخبيهم المباشرين، ولكن أيضًا تجاه الأجيال القادمة.

         ولذلك، أختتم حديثي بالقول إن عالم اليوم يفتقر إلى هؤلاء الذين يستحقون أن يُطلقِوا على أنفسهم قادة، وأختتم بالقول إن القائد هو من يكون لديه رؤية واستراتيجية وتكتيكات، والهدف النهائي هنا هو: السّلام العادل في العالم.

شكرًا لكم على الاستماع إليَّ!

 

 


كلمة فخامة رئيس أرمينيا السابق

أرمين ساركيسيان

(رسالة فيديو مسجلة)


أسعد الله صباحكم،

أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة،

أصدقائي الأعزاء المشاركين في هذا المؤتمر الهام «المنتدى العالمي الثَّاني لثقافة السّلام»،

         دعوني أولًا أعرب عن شكري وتقديري إلى فخامة الدكتور جورج فيلا، رئيس جمهورية مالطا، على دعوتي لحضور هذا المؤتمر، والشكر موصولٌ أيضًا إلى منظمي هذا المؤتمر الهام للغاية، وأخص بالذكر السيد عبدالعزيز سعود البابطين، رئيس مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية، والذي أتقدَّم له بجزيل الشكر على دعوته لي، ولكن لسوء الحظ، وبعد أن كانت لدي النية للحضور بشكل شخصي، لم أتمكن من ذلك نظرًا لأن حالتي الصحية الحالية لم تسمح أو لا تسمح لي بالسفر، لذا أود عبر هذه الكلمة المسجلة أن أشكركم على دعوتكم لي لحضور المنتدى.

         لقد جاء هذا المؤتمر في وقت مناسب للغاية كما أنَّ له أهمية كبيرة، خاصة حين يتعلق لقد جاء هذا المؤتمر في وقت مناسب للغاية كما أنَّ له أهمية كبيرة، خاصة حين يتعلق الأمر بالحديث عن السّلام، وعن السّلام العادل على وجه الخصوص، وكيفية تحقيق ذلك الهدف في هذا العالم الذي لا يمكن التنبؤ بما يحدث فيه على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، وهو الأمر الذي أراه بالغ الأهمية.

         أعتقد أنه يتعين علينا أن نجري مناقشات طويلة الأمد وشاملة وعميقة حول مستقبل العلاقات والسياسات الدولية، لأن العالم قد تغير من حولنا ولم يعد ذلك العالم التقليدي الذي عشنا فيه قبل 20 أو 30 عامًا، مع هيمنة الدبلوماسية الدولية مع الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو أي منظمة دولية أخرى، مع تفاهمات واضحة أو اختلافات أو أيديولوجيات أو أنظمة قائمة على أساس اقتصادي أو اجتماعي، لقد أصبح العالم الحالي عالمًا لا يمكن التنبؤ بما يحدث فيه إلى حد كبير، وأصبح عالمًا متداخلًا ومترابطًا للغاية، لذلك أطلقتُ عليه اسم «العالم الكَمِّي».

         ربما تودون أن تعرفوا أنه في بداية حياتي، وبطبيعة عملي أستاذًا للفيزياء النظرية والفيزياء الفلكية والرياضيات، كنت أفكر منذ سنوات فيما يحدث في العالم وفي شتى التغييرات المتعلقة بهذه الموجة الجديدة والضخمة من التطور التكنولوجي.

         في الواقع، يكمن مصدر هذا التقدم التكنولوجي في «الثورة الكَمِّية» التي حدثت منذ حوالي مئة عام أو أكثر من مئة عام بالتزامن مع اكتشاف «فيزياء الكم»، والتطور السريع والمذهل للتكنولوجيا التي خلقت روابط جديدة تمامًا، وبيئات جديدة لأنشطتنا متداخلة مع تلك الأعمال والأنشطة التجارية والعلمية والثقافية والسياسية التي غيَّرَت العالم أيضًا.

         في الواقع، إن لذلك تأثيرًا كبيرًا في سياساتنا وممارساتنا السياسية الحقيقية هذه الأيام، أعتقد أن هذا هو السبب في أن أصبح لدى الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم هذا الشعور بعدم القدرة على التنبؤ وأكسبهم شعورًا بعدم الاستقرار وغياب النظريات القديمة أو التفاهمات أو الراحة في إدارة السياسة، ولهذا السبب توصلتُ منذ سنوات إلى نظرية لا تصف فقط التقدم التكنولوجي المعاصر أو الطريقة التي تغير بها العالم بشكل عام، ولكن كيف تغيرت طبيعة العلاقات والسياسة الدولية على وجه التحديد، وقد أطلقت على ذلك مصطلح «السياسة الكَمِّية»، ونحن نرى جميعًا اليوم نتائج هذا التغيير.

         أعتقد أن الكثير من الأحداث السياسية الجارية اليوم، وفي هذه اللحظة بالذات، لم نكن نتخيل حدوثها منذ عدة سنوات، لأننا كنا نؤمن حينها بالأنظمة والسياسات والمؤسسات والمنظمات التقليدية، ولكن الأمور بدأت تتسارع بشكل كبير وأصبح من غير الممكن التنبؤ بالكثير منها، وهذا هو السبب في أنها تسبب الكثير من الإزعاج لمن ينخرطون فيها، ولست أقصد للسياسيين أو للمحللين أو للصحفيين فقط، ولكن أيضًا لعامة الناس في جميع أنحاء العالم، لذلك فقد حان وقت أن يكون كل ما يهم هو قضايا السّلام العالمي والقيادة في هذا العالم الجديد؛ قضايا القيادة في العالم المتغير، القيادة في هذا العالم الكمي الجديد، لأنه وبكل تأكيد لن تكون هذه القيادة هي نفسها غدًا كما نراها اليوم أو كما رأيناها بالأمس.

         إن الأسلحة المعتادة التي يستخدمها السياسيون؛ سواء في حالة الحرب أو السلم، تتغير مع الوقت؛ فهم ينظرون إلى النزاعات في جميع أنحاء العالم ويعتقدون أن هذه النزاعات لا تتعلق فقط بالعلاقات الدولية أو التفاهمات أو الاختلافات، ولكنها أيضًا تنهي عقودًا من الصراعات. إن الأمر لا يتعلق بالأسلحة العادية أو القوة العسكرية، بل يتعلق أيضًا بالرأي العام، ووسائل الإعلام، والأخبار الحقيقية أو المزيفة وما إلى ذلك، فكل شيء يتغير يوميًا ومع كل خطوة نخطوها؛ سواء كان ذلك على الصعيد السياسي أو غير السياسي، وأصبح لذلك تأثير كبير في جميع أنحاء العالم، لذا سوف أترك قضية أن هذا قد تغير إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، لتقديركم الخاص أيها الزملاء الأعزاء أثناء إجراء المناقشات، ولكن أود أن أقول إنَّ الشيء الوحيد الواضح هنا هو أنَّ كل هذا ليس كما كان من قبل.

         بالطبع لن تكون الدقائق الخمس الممنوحة لي وأنا أحدثكم بشكل افتراضي كافيةً بالنسبة إلَيَّ للتفكير في تفسير أو شرح أساسيات سياسة الكم أو السياسة في العالم الكمّي الجديد، ولكن هناك رسالة واحدة واضحة أحب أن أوجهها؛ لقد أصبحنا نعيش في عالم مختلف تمامًا، عالمٍ أسرع بكثير، أكثر ترابطًا، وتشابكًا، عالمٌ لا يمكن التنبؤ بما يحدث فيه من نواح عديدة، ومن أجل البدء في فهم هذا العالم الجديد ومن أجل أن نتمكن من صنع قادة جدد يمكنهم قيادة الأمم وقيادة العالم نحو السّلام العادل، علينا إجراء المزيد من المناقشات الجادة حول مكاننا الحالي من هذا العالم، حول مكاننا الحالي من هذا العالم الكمي ذي السلوك الكمي، بدءًا من النَّواحي الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية والعسكرية والسياسية.

         وأغتنم هذه الفرصة لأشكر منظمي هذا المنتدى مرة أخرى؛ وأخص بالشكر فخامة رئيس مالطا، الدكتور جورج فيلا، وجميع الزملاء الآخرين، وأتمنى لكم جميعاً التوفيق، كما أتمنى أن تكون حالتي الصحية أفضل مما هي عليه الآن حين تعقدون المنتدى القادم حتى أتمكن من المشاركة.

أتمنى لكم يومًا سعيدًا وناجحًا.

مع السّلامة.

bottom of page